انا حزين اليوم مثلما كنت حزينا في 14 شباط الماضي يوم اغتيل الرئيس رفيق الحريري. ولم يكن مصدر الحزن الذي اصابني قبل اكثر من نصف سنة فقط صداقة بل اخوة عميقة ربطتني بالشهيد منذ بدايات تعاطيه الشأن العام في وطنه لبنان في مطلع ثمانينات القرن الماضي واستمرت اكثر من عقدين رغم التباينات التي اعترت هذه العلاقة منتصف التسعينات. وليس مصدره فقط الاحساس بان لبنان تكبد بالاغتيال خسارة جسيمة لا تعوض رغم ان دماءه الزكية شقت الطريق امام عودته دولة سيدة مستقلة. علما انها لا تزال غير "معبّدة" حتى الآن. بل كان مصدره "موقف هذا النهار" نشرته قبل الاغتيال باسبوع او ربما اكثر بقليل بعنوان "سورياً بلغ السيل الزبى" اعتبره كثيرون لكن بعد الاغتيال اشارة اليه في شكل او آخر. يومها استضافتني الزميلة والصديقة الشهيدة الحية مي شدياق في "نهاركم سعيد" ولفتتني بذكاء ولباقة وعفوية ولكن من دون اتهام الى تلك المصادفة. فاكدت لها انها مصادفة وشرحت لها وللمشاهدين انني كتبت ما كتبته انطلاقا من تحليلي للواقع السياسي ومن متابعتي اياه بحكم مهنتي. لكن في اعماقي كنت حزينا لانني بدوت في مقالي كمن يتوقع الاسوأ. ووقع الاسوأ اي الاغتيال بصرف النظر عن هوية القاتل او هويات القتلة التي لا يزال يبحث عنها المحقق الدولي ديتليف ميليس.
اما مصدر الحزن الذي اصابني مساء الاحد الماضي ولا يزال يصيبني اليوم وسيبقى يصيبني مدة طويلة فلم يكن فقط لاستهداف صديقة وزميلة عرفت بالجرأة والعفوية والاحتراف بل كان ايضا لنشري قبل يوم من استضافتها اياي في البرنامج نفسه "نهاركم سعيد" "موقف هذا النهار" تضمن توقعا بتعرض لبنان لغيوم سوداء قد تتحول اعاصير. وذلك امر حاورتني فيه مع ميل فطري طبيعي عندها الى استبعاده ربما بسبب طبعها التفاؤلي ومع ميل موضوعي عندي الى موقف مخالف هو نتيجة استقراء اوضاع وتحليل لها اكثر مما هو شيء آخر كما كان (اي الحزن) لوقوعها هي وبعد ساعات قليلة ضحية لهذه الغيمة.
وانا غاضب اليوم وان كان غضبي لا يؤثر او "لا يزيد او ينقص" كما يقال. وغضبي كبير. وهو منصبّ على الذين لا يزالون يعتبرون بلدي وأهله رهينة ويتصرفون على هذا الأساس. ومنصب أيضاً على الذين لا يزالون يعتبرون بلدي ساحة تصفية صراعات وحسابات اقليمية ودولية. ومنصب ثالثا على الطبقة السياسية اللبنانية بل الطبقات باعتبار ان هناك طبقة ما قبل الحرب وطبقة ما بعد الحرب وطبقة ما بعد انتهاء الادارة السورية للبنان وربما قد تتكون الآن طبقة اخيرا هي طبقة الرعاية الدولية للبنان. فمعظم هذه الطبقات حكم لبنان من مواقع مختلفة ومتناقضة وحقق مجده كي لا نقول اكثر بواسطة هذا الحكم لكنه لم يعبأ يوما بمصلحة ابناء لبنان ولا بمصلحة وطنهم بل حصر اهتمامه بمصلحته الخاصة واحيانا بمصالح فئوية لكن من شأنها تعزيز مصالحه الخاصة وخرقها.
وهو منصبّ رابعا واخيرا على الشعب اللبناني الذي انا فرد منه، فعلى المستوى الفردي اثبت اللبنانيون داخل بلادهم وخارجها تفوقا اثار الاعجاب في العالم ولا يزال يثيره. لكنهم على المستوى الوطني اثبتوا عجزهم او فشلهم او قلة كفاءتهم. فالفرد اللبناني مهم وموجود. اما المجتمع اللبناني فمشرذم ومنقسم لاعتبارات كثيرة اهمها الطائفية والمذهبية. ورغم كل ما اصاب هذا الشعب او الشعوب باعتبار انه تصرف كذلك في كل الحقب القاسية التي مر بها منذ عام 1975 وربما قبل ذلك وحتى اليوم فانه لم يتوحد ولا نقول لم يستعد وحدته لانه فعليا لم يكن موحدا. لا بل ان انقساماته اليوم اكثر حدة. وما لم يقرر ان مشكلته لم يتسبب بها فقط الخارج القريب او البعيد او الصديق او الشقيق او العدو بل تسبب بها لنفسه انطلاقا من هذه الانقسامات فانه سيبقى عرضة للتناحر في الداخل وللتجاذب من الخارج.
انا حزين وغاضب. لكن هل انا خائف؟
انا خائف طبعا على لبنان ومن نفسه اولا ثم من مصالح الخارج على تناقضه. وانا خائف على محيط لبنان لان عدم استقراره بصرف النظر عن مسؤوليته عن هذا الامر أو لا يعني استمرار عدم الاستقرار في لبنان واقلها الاغتيال والتفجيرات المتنقلة. وطبيعي انا اخاف على نفسي كما على سائر الزملاء في العائلة الاعلامية الكبرى. ذلك ان الذي لا يخاف ليس انسانا، لكن الخوف لا يعني الجبن والتخلي عن الواجب كما ان البطولة او على الاقل الشجاعة او الجرأة لا تعني التهور. لكن قدرنا كاعلاميين ان نقوم بواجبنا بموضوعية، وسنقوم به. اما الاعمار فبيد الله.
في النهاية اسمح لنفسي باستذكار حوارين قصيرين وانطباع خلال استضافة الشهيدة الحية مي شدياق لي يوم الاحد الماضي وذلك لتعزيز الصورة التي يعرفها الكثيرون عن شخصيتها العفوية والمستقلة وعن عفويتها وتفاؤلها. دخلت مي الاستوديو كعادتها مستعجلة ومنرفزة سائلة العاملين فيه عن "السماعة" (Earphone) وطالبة منهم احضار اوراقها من جزدانها وما الى ذلك. قلت لها: اذا كنت معصبة ونحن في اول النهار، فكيف ستكملينه؟ اجابت ضاحكة: "انا بروق قوام". ورددتُ: "هذا يعني ان قلبك طيب".
- اثناء مداخلة وزير العدل الدكتور شارل رزق في الحلقة من منزله حاورته لكنها بدت بتصرفاتها واشاراتها داخل الاستوديو انها لم تكن مقتنعة بكلامه.
- بعد نهاية الحلقة تحدثنا قليلا عن الاخطار على الناس جميعا ومنهم الاعلاميين، سألتها هل تتخذين تدابير حماية؟ ضحكت وضحكتُ وسألنا معاً كيف. تحدثنا عن الكشف على السيارات على الاقل وقلت لها ان سيارتي تفتش بدقة ولو دخلت مبنى "النهار" حيث اعمل خمس مرات في اليوم. اجابت بضحكة: لقد توقفوا عن ذلك في المجمع حيث اقيم.
انا واثق انها لم تفكر في حينه ولا قبل ذلك بامكان تعرضها لما تعرضت له رغم تلقيها في ماض غير قريب تهديدات عدة، واذا فكرت فان شجاعتها كانت تدفعها ومعها حبها للحياة وطبعها التفاؤلي الى تجاوز الافكار السوداء. وانا واثق الآن انها ستتجاوز محنتها الحالية على صعوبتها لتعود من جديد الينا الى جمهورها متألقة مبدعة.