الزميل مصطفى ناصر معروف في الوسط الإعلامي والسياسي بأنه صحافي، لكنه في الواقع انسحب من مهنة المتاعب منذ زمن وأقفل وكالة الأنباء التي يملكها، و<احترف> العلاقات العامة، فعمل مع الرئيس المرحوم رفيق الحريري فترة طويلة من الزمن، كمستشار أُتيح له أن يخزّن الكثير الكثير من الاسرار التي تضيق بها ذاكرته. وبعد اغتيال الرئيس الشهيد كان من الطبيعي أن يتابع مهمته مع سعد الحريري. المهمة محدّدة: العلاقة مع حزب الله وأمينه العام السيد حسن نصر الله، المرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله، الجمهورية الاسلامية الايرانية. لكن هذه المهمة دقيقة وحساسة وكبيرة في الوقت نفسه.
تعارفنا، مصطفى وأنا، على متن اول طائرة لبنانية، أقلعت من مطار بيروت الى طهران، بعد نجاح الثورة الاسلامية الايرانية وعودة الإمام الخميني في اواخر شباط من العام .1979 كنّا سوياً برفقة وفد المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الذي ذهب الى ايران برئاسة الامام المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين لتهنئة ثورتها المظفرة. كان مصطفى مراسلاً لصحيفة <الرياض> السعودية في بيروت ومديراً لمكتبها. ثم توثقت صداقتنا بعد تعيينه في اوائل التسعينات عضواً في مجلس ادارة تلفزيون لبنان. هو محدّث لبق. محبّ للحياة. تحضره دائماً روح النكتة. لم أصادفه مرة غاضباً. مدرار في الحكايا الممتعة التي حفلت بها حياته، لكنه كتوم الى حد الضجر في المسائل التي تستدعي الكتمان. ربما لهذا وثق به رفيق الحريري ومن بعده سعد والسيد نصر الله، ليكون مهندساً وحاضراً جميع لقاءات الرجلين سابقاً وحالياً.
على الرغم من كل هذه المزايا والصداقات والعلاقات، لم يربِّ مصطفى ناصر ثروة تُذكَر. جنت يده أموالاً طائلة، لكنه يهوى حياة الملوك، فصرف الطائل من الاموال. اليوم يفكر مصطفى ان يصبح مليونيراً، ولكن من باب الصدف. فربّ صدفة خير من الف ميعاد. واليكم القصة الكاملة:
تبدأ القصة من كتاب الضابط الالماني <يورغن كاين كولبل> الذي نشر أخيراً بالعربية بعنوان <اغتيال الحريري.. أدلة مخفية> الصادر عن دار <كاي هوميليوس> في برلين. وتدور فكرة الكتاب حول اتهام إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة بقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق. ويورد الكتاب حديثاً منسوباً الى <المستشار السابق للرئيس الحريري مصطفى ناصر> يقول فيه <إن الموساد الاسرائيلي هو المسؤول عن اغتيال رفيق الحريري>. وقد تولّت وكالة الصحافة الفرنسية في بيروت توزيع تقرير صحافي عن هذا الكتاب، متضمّناً الحديث المنسوب الى مصطفى ناصر، فكان أن انهالت عليه الاتصالات من الزملاء والأصدقاء والمعارف، فنفى بشدة أن يكون قد أدلى بهذا الحديث، أو ان يكون على معرفة من قريب أو بعيد بمؤلف الكتاب، وأقسم يميناً معظّمة أنه لم يسمع باسم هذا الضابط الالماني من قبل. وقد ورد شيء من هذا النفي في عيون <السفير> الاسبوع الماضي، مع إشارة الى ان مصطفى يعتزم إقامة دعوى جزائية ضد الكاتب بجرم التزوير.
ذهب مصطفى إلى مكتب وكالة الصحافة الفرنسية في بيروت معاتباً على هذا الخبر. قيل له إن الوكالة نشرت الحديث المنسوب اليه نقلاً عن الكتاب، وهي ليست مسؤولة لا مهنياً ولا قانونياً. وهذا امر طبيعي في عالم المهنة. قال مصطفى: من واجبكم ان تسألوني. قالوا: من حقك ان تنفي، ونحن ملزمون بالنشر. وهكذا كان. نفى ناصر الحديث جملة وتفصيلاً.
الأسبوع الماضي جاء مؤلف الكتاب <كولبل> إلى بيروت وعقد مؤتمراً صحافياً روّج فيه للكتاب وعرض بعض وقائعه وردّ على اسئلة الصحافة ووسائل الاعلام. قال له أحد الصحافيين إن مصطفى ناصر ينفي الحديث المنسوب إليه في كتابك، ويقول إنه لا يعرفك من قريب او بعيد. ردّ <كولبل>: نعم، أنا لا أعرف مصطفى ناصر، ولم يسبق ان التقيته، لكنني نسبت إليه هذا الحديث نقلاً عن وكالة الانباء الايرانية في عددها الصادر بتاريخ 15 شباط ,2005 اي في اليوم الثاني لاغتيال الحريري.
دخل الشك إلى رأس مصطفى ناصر، وقال في قرارة نفسه <لعل الوكالة نسبت اليّ هذا الحديث من غير علمي>. ذهب الى وكالة الانباء الايرانية، وطلب ارشيف الوكالة في 15 شباط ,2005 فلم يجد فيها شيئاً من هذا القبيل. لعله في عدد 15 آذار، أو 15 نيسان. وبعد البحث والتدقيق في كل <الخمسة عشرات> الشهرية التي أعقبت اغتيال الحريري لم يعثر أحد على خبر من هذا النوع. أكثر من ذلك اكد مسؤولو الوكالة الايرانية أنهم لا يذكرون أنهم نشروا حديثاً من قبل للزميل مصطفى ناصر.
<.. ولكن هل أنتم مستعدون لاعطائي وثيقة تؤكد هذا الأمر>؟.. سأل ناصر، فأجاب مسؤولو الوكالة: بكل حبّ وكرامة.
لا يستنكر مصطفى ناصر أن تكون إسرائيل وراء اغتيال الحريري. ربما هو يتمنى ذلك. ولكن في رأيه أن التحليل شيء، والمعلومات شيء آخر. وهو لا يملك معلومات على هذا الصعيد، ويقول <إن عملية كشف الحقيقة هي مهمة لجنة التحقيق الدولية، ولا يحق لأحد أن يجزم سلفاً في هذه الجريمة النكراء، وأنا لا أسمح لنفسي في ذلك.. لو سُئلت من باب التحليل من قتل الحريري؟ ولماذا؟ لقلت: <المطلوب قتل الإسلام المعتدل باغتيال رفيق الحريري، وسبق لي أن قلت هذا في مقابلات صحافية، والمستفيدون من ذلك كثر، لكن الجزم في توجيه الاتهام ليس من حقي، بل هو من واجب القضاء>.
لا تنتهي القصة عند هذا الحد بالنسبة إلى مصطفى. هو عازم على تقديم دعوى. لكن جاء من يهمس في أذنه من <أهل القانون والمعرفة>: .. يا حبيبي هذه قضية كبيرة وتستدعي المتابعة والتعويض. ماذا لو أقدم أحد ما على اغتيالك غداً واتهم الموساد الإسرائيلي بهذا الأمر.. تكون قد ذهبت كما شربة الماء.. ومن سيحاسب إسرائيل؟ وماذا تفعل عائلتك من بعدك، لا سمح الله؟
ماذا يعني هذا اذاً؟.. قال مصطفى، فأجاب رجل القانون: ترفع دعوى جزائية ضد الكاتب ودار النشر في المانيا، وتطلب تعويضاً مقداره عشرة ملايين يورو (أكثر من اثني عشر مليون دولار). وأنا أضمن لك هذا التعويض.
يضحك مصطفى ناصر ملء فكيه وعينيه وهو يحدث الاصدقاء، الذين يبدأ الحسد يتسلل إلى أذهانهم: ستصبح مليونيراً إذاً!!
يرتشف مصطفى فنجان قهوته ويقول باسماً: <يا اخوان نقبل بنصف المبلغ.. إنها رمية من دون رامٍ>.