الرائج اليوم، في منطقة الشرق الأوسط، تهمة «التسييس»، وتحديداً تسييس الأنشطة التي تمارسها المؤسسات الدولية قانوناً ورقابةً.
الحكم السوري حذر، مثنى وثلاثاً، من تسييس التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. حلفاؤه اللبنانيون، كالعادة، التقطوا الراية وشرعوا يغمزون من قناة لجنة التحقيق الدولية، لا سيما المحقق ديتليف ميليس، مشككين بتسييسهما التحقيق. وبدوره، اكتشف وزير خارجية ايران ان تقرير وكالة الطاقة الدولية «مسيّس»، علماً أن الكثير من محتوياته جاء في صالح طهران.
والكلام على التسييس غريب حين يصدر عن سورية وايران، وعن التابعين والمؤيدين والمتعاطفين معهما في لبنان. ذاك ان البيئة هذه بيئة التسييس بامتياز: تسيّس الكتاب وفيلم السينما اذا ما صدرا عن بلد عدو، وتسيّس التحدث الى أي مواطن في ذاك البلد العدو حتى لو كان الحديث عن حال الطقس، وتسيّس الكوكالا وسندويش الهمبرغر الاميركيين داعية الى مقاطعتهما. وهي بيئة تُحل التسييس المطلق محل السياسة الممنوعة، والممنوعة بفضلها هي، عاجزةً عن أن ترى أي شيء، أي شيء حرفياً، خارج نطاق تسييسها.
وما تعانيه السياسة على يدها يعانيه القانون. فلا طهران ولا دمشق ولا الذين يماشونهما من اللبنانيين عُرفوا بالعناية بالقوانين، وبالحماسة لاستقلال سلطتها عن السلطة التنفيذية، وبالتصدي لسلطة اعتباطية، أو حتى لضابط اعتباطي صغير في ممارسته لها. لا بل ان أياً من هؤلاء لم يحضّ على كشف جريمة، أو التدقيق في معلومة. وهذا كي لا نطلب الكثير ونتساءل عن دور أي منهم في انتاج قانون، أو تطوير قانون!
وغني عن القول ان هذا كله من نتائج التسييس الذي أُخضعت له، وتُخضَع، مجتمعاتنا بحيث تتكرس عقائد مقدسة تنجر عنها ارتكابات مدنسة، فيما القوانين يحرّم عليها الاقتراب من المقدس ومن المدنس سواء بسواء.
ومَن كانت حاله على هذا النحو بات من المفهوم خلو مطالعته، في الانتصار للقانون، من الحجج القانونية. فكل ما يقال تشكيكاً بالهيئات الدولية هو اطلاق شتيمة «التسييس». والراهن ان المشككين يطلقون أوصافهم هم على منقوديهم، فيعاملون ديتليف ميليس كأنه سليل التقاليد الدستورية العريقة لجميل السيد، ومحمد البرادعي كأنه خريج المدرسة الحقوقية التي انجبت أحمدي نجاد! ويفوت النقاد ان هذا السجل المديد في تغليب التسييس على القانون هو السبب الأبعد في ما نراه اليوم من قضم لسيادات وطنية لم تكن جديرة بأوصافها.
أما القول ان ثمة أطرافاً تفيد من التحقيق في لبنان (وسورية)، أو من التنقيب في ايران، وانها تنوي تسييس النتائج، فأمر في غاية الطبيعية. وهل يعقل أن يعزف طرف سياسي عن استثمار تلك الكنوز حتى لو لم تكن لديه نيات مسبقة؟
ملاحظة: المدافعون عن صدام حسين ردوا على الرغبة في محاكمته عن مجزرة الدجيل بتهمة... «التسييس». ربما. لكن من أجل صدقية الاتهام، ينبغي ان يكون موجهوه يتمتعون برصيد في الدفاع عن الحقوق والحريات والقوانين. الاشتهار بمكافحة الامبريالية والصهيونية سلعة لا تُصرف في سوق التداول هذه.