في أدبيات الانتخابات الرئاسية المصرية الأخيرة، تكرر تعبير «أول» انتخابات تعرفها مصر. البعض أضاف «منذ خمسين سنة»، والبعض الآخر «منذ مئة سنة»، وثمة من قال: «منذ فجر التاريخ». لكننا لم نسمع تفسيراً يشير علينا بسبب «الامتناع» المصري المديد، ولم يقل لنا أحد لماذا التقى حكام هم ملوك ورؤساء، «يمينيون» و»يساريون»، موالون لواشنطن وموالون لموسكو السوفياتية، على فرض امتناع كهذا ومأسسته؟
وهو سؤال في التاريخ الثقافي يكاد طرحه يكون محرّماً، لأن «السياسة» كما نعرفها لا تتعدى سوية القشرة، ولا تمتد الى ما وراء عهد بعينه. الا أن عدم طرحه «يبرّر» شيوع بعض التعابير التي حفّت بالانتخابات الأخيرة، كالقول انها «انتخابات تعددية»، ما يعني الاقرار، ضمناً، بأن هناك انتخابات «غير تعددية» (وبهذا يصح وصف الانتخابات على ما كانت تشهده مصر من قبل، أو على ما تشهده ايران راهناً). أو كالقول بأن الرئيس مبارك مرشح «الاستقرار» (وهو ما يدل الى درجة النفاذ والتمدد التي أحرزتها اللغة الأصولية - الارهابية بحيث غدت السياسة مجرد تجنيب الموت!).
عل أية حال يبقى أن ما تحقق اسمه انتخابات وليس ديموقراطية. ولا نبالغ حين نقول ان مصر اليوم تحتمل الانتخابات أكثر مما تحتمل الديموقراطية، شريطة ان تكون الأولى محطة تمهيد للثانية، يتعزز فيها، وخلالها، حكم القانون. وغني عن القول ان ثمة ضمانات يتقرر على ضوء تقديمها، أو عدم تقديمها، ما اذا كان المسار حقاً انتقالياً وتدريجياً نحو الديموقراطية. وفي هذه الغضون يحتل أهميةً قصوى، بطبيعة الحال، تنفيذُ الوعود الاصلاحية للرئيس مبارك، وفي استطراد ذلك، وفي ظلاله تقيم مسائل عدة:
-كيف العمل على رفع المشاركة الانتخابية للسكان، أي اقناع المصريين بأن السياسة جدية وبأن آراءهم وأصواتهم كفيلة بتغيير وقائع وانتاج وقائع؟
-وكيف التمسك بمستوى الحريات الذي توافر في الأشهر الأخيرة وتوسيع نطاقه بحيث يشمل تشكيل فئات سياسية لا تزال ممنوعة من التشكل، على رأسها الاخوان المسلمون؟
-وكيف يصار الى تبديد «الشبهات» (؟) حول التوريث، وهو تبديد إن لم يحصل جازت أسوأ الظنون في الهدف المقصود من «التعددية»؟
-وكيف الانتقال من تركتي انقلاب يوليو الثقيلتين: في الإعلام الذي ينبغي إخراجه من قبضة الدولة، والمؤسسات العسكرية والأمنية التي ينبغي وضعها في عهدة مدنيين منتخبين؟
-وكيف يصار الى تنفيذ اصلاحات مؤسسية وهيكلية تنعكس على مكافحة الفساد والأداء الاقتصادي تالياً (هناك انجازات مؤكدة كبلوغ نسبة النمو للعام 2005 4.8 في المئة وارتفاع قيمة الجنيه، لكن الدين العام لسنة 2004 - 2005 يتجاوز الـ8 بلايين دولار، ونسبة البطالة تقارب الـ20 في المئة، و43 في المئة من المصريين يعيش واحدهم بأقل من دولارين يومياً).
لقد كشف هزالُ المعارضة التي خاضت الانتخابات حدودَ المجتمع ومدى تحمله للتغيير. وفي المقابل برزت اشارات مهمة كالاقتراع نفسه، كما ظهرت في التداول أفكار وممارسات لا تقل أهميةً، كاستقلال القضاء والمهمة الرقابية للمجتمع المدني (وكانت مهامه تقتصر قبلاً على إحراق الأعلام). كذلك بدا الضغط الدولي، على رغم بعض علامات الخفة، جيداً ومفيداً. فقد انضبط في ما هو أقل من الدعوات الثورية الطائشة التي سيّدها المحافظون الجدد، وفي ما هو أكثر من ترك الأمور لحكمة الحاكم.
يبقى تفعيل هذه الايجابيات لإنضاج الحياة السياسية بضفتيها الحاكمة والمعارضة، ومن ثم إحداث العبور الى حكم القانون، والى الديموقراطية تالياً.