لم يترك «الحزب» المسمى «حراس الأرز» مكاناً للإبهام، أو حاجة للايضاح، في ما خص معنى العنصرية والسعي الى مثال فاشي. وهما معنى وسعي يُستعرَضان في سياق الدعوة الى «العمل المباشر»، أي تحديداً: القتل.
لكن، وفي معزل عن مدى هامشية الظاهرة هذه، ومن غير أن تقود فولكلوريتها الزجلية الى طلب التسامح معها، تبقى ثمة خلفية صالحة للاستعادة. فمعروف ان حزب الكتائب اللبنانية وهو، مثلاً، الحزب الذي طاولته تقليدياً تهمة «الفاشية»، لم يكن فاشياً بما يتعدى استعارة التسمية من الجنرال فرانكو. وهو لم يكن كذلك لأسباب عدة أولها انه حزب تجمعي، والفاشية قومية تملك زعم التمثيل الشامل لـ «الأمة» و«الدولة» برمتهما. ثم انه، ثانياً، لم يتخل يوماً من أيامه عن تمجيد الديموقراطية البرلمانية، كما شارك في سائر برلمانات لبنان قبل الحرب وفي معظم حكوماته، فيما الفاشية لا تكنّ للديموقراطية الليبرالية غير الاحتقار والكراهية. وهو، أخيراً، حزب ذو لغة دفاعية («لبنان وطن لجميع أبنائه»، «قوة لبنان في ضعفه»، «أي لبنان نريد؟»، «الميثاق... الصيغة... التفهم والتفاهم») بينما اللغة الفاشية هجومية صارخة.
مع هذا، حين عجزت الدولة اللبنانية عن المحافظة على احتكارها العنف، وظهر السلاح في أيدي تنظيمات لبنانية وفلسطينية بذريعة «المقاومة»، تغيرت الكتائب. فبعد استعراضات كشفية أريد منها محاكاة التنظيم والترتيب في «البلدان المتمدنة»، نشأت بؤر عسكرية متطرفة داخل الحزب المذكور وعلى ضفافه. وما لبث هؤلاء أن تسنّموا المواقع القيادية في تراكيب كان بعضها مدنياً وسياسياً بينما الحرب تنشب أظافرها والتطرف الأعمى يمارسه الجميع قتلاً وخطفاً على الجميع.
وفي مناخ كهذا يسمه الانفلات الغريزي ويسمّمه، ولدت حالات كريهة كـ «حراس الأرز» في جانب، وكـ «فتيان علي» في جانب آخر، وخرج ما خرج من صندوق باندورا.
تستعاد تلك الصفحة من تاريخ قريب العهد للقول ان خطاب الكراهية اللبناني، ومثله تنظيمات الكراهية، أبناء «طبيعيون» لانعدام وجود الدولة المحتكرة وحدها أدوات العنف. وهي حقيقة يزيد في الإلحاح عليها مدى الانقسام اللبناني القديم المشوب بمخاوف الأقليات العميقة (راجع العراق ايضاً)، ومدى التنازع والخلاف في ما خص تعريف الأساسيات السياسية، بما في ذلك معاني الوطن والوطنية. وهو دائماً خلاف يتغذى على أسباب داخلية في مقدمها موقع الريف في لبنان، سياسةً واقتصاداً وثقافةً، الذي بات ينافسه، في سنوات الحرب، النزوح الى ضواحي المدن.
فكيف وقد أضيفت الى الانقسام هذا مفاعيل ربع قرن لازمه كبت المجتمع في ظل ايديولوجيا رسمية تمجد «العروبة» و»المقاومة»، محروسة بالأمن وأجهزته من غير ان تحظى باجماع شعبي؟ والمسألة لم تقتصر، طبعاً، على الكبت التعبيري. ذاك ان «عروبة لبنان» في تأويلها السوري اذ أفضت الى تهميش المسيحيين على النحو المعروف، «أعطت» فلسطينيي لبنان اسوأ سنوات حياتهم السيئة. فاذا صرفنا النظر عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية البالغة الرداءة في المخيمات، وهو ما يصعب صرف النظر عنه، حظي بعض المرتكبين المباشرين لمجازر صبرا وشاتيلا بمناصب وزارية ومواقع سياسية تقريرية.
وقياساً بهذا السلوك الفعلي، القاتل حقاً للفلسطينيين، تبقى دعوات فتية «حراس الأرز» الى قتلهم أشبه ببذاءة عنصرية يساقون بعدها الى سجن يستحقّونه.