عندما دعا سيلفان شالوم الى اسقاط «الجدار الحديد»، بدا مستفزاً بقدر ما بدا محرجاً. بيد أن الشكل الذي ترسو عليه العلاقات الاقليمية يمنح دعوة الوزير الاسرائيلي، من وجهة نظره ونظر بلاده، معناها وإلحاحها.
فربما كنا الآن نعيش ابتداء مرحلة مديدة ومتعثرة عنوانها انتقال التركيز من الموضوع الفلسطيني - الاسرائيلي الى الموضوع الايراني عبر بوابة العراق. ونحن لا زلنا نذكر ان البوابة تلك سبق لها، في الثمانينات، أن استقبلت مصر في عودتها الى الحظيرة العربية وأسقطت الحرم عن كامب ديفيد. وربما كان قصد وزير الخارجية الاسرائيلية ادخال بلده من البوابة اياها بالقفز عما يجري على حدود غزة أو في داخل الضفة. وهو، إذا صح، يجعل التأويل الحقيقي لعبارته كما يلي: ان الاتصالات السرية باتت تنتمي الى ما قبل استفحال العنصر الايراني.
صحيح اننا عشنا في الأيام القليلة الماضية انفجار جباليا، وصواريخ حماس على سديروت، والتصعيد العسكري الاسرائيلي، واعلان حماس وقف اطلاق الصواريخ من غزة وانهاء احتفالات الجلاء عنها. وصحيح ايضاً ان جزءاً من تلك الأحداث يتصل بانتخابات ليكود وتنافس شارون ونتانياهو. لكن ما لا يقل صحة تلك الخطى المتفاوتة، الباكستانية والقطرية والاندونيسية، باتجاه الدولة العبرية، فيما كان رئيس الوزراء الاردني عدنان بدران يزور بغداد، والملك عبد الله الثاني يباشر وساطته. وقد لا يكون قليل الدلالة ان يتوازى انفجار الموضوع الايراني في أعلى المحافل الدولية، فيما المواقف الاميركية والأوروبية متطابقة، مع توتر غير مسبوق يطاول الجنوب العراقي يكون البريطانيون هدفه.
جاءت هذه التطورات بعد جهود حثيثة يبذلها الرئيس محمود عباس لتحرير الموضوع الفلسطيني من المواضيع الاقليمية. فكما اعتذر، في وقت سابق، من الحكومة الكويتية عن مواقف منظمة التحرير ابان اجتياح الكويت، واظب على فصل ما يجري في فصل فلسطين عما يجري في لبنان وفي مخيماته. وفي مقابل هذا «الفك» الفلسطيني، تواصل طهران، أقله منذ انتخاب أحمدي نجاد، سياسة «ربط» لا تخطئها العين، خصوصاً في العراق ولبنان. واذا كان الموضوع النووي يختصر، فضلاً عن أهميته الذاتية، أموراً اقليمية عدة، فإن طهران، وقد أطيح صدام وتجمّع في يدها من عوائد النفط ما لم يتجمّع قبلاً، كفيلة بتأسيس مواجهات لا حصر لها. فإلى العراق ولبنان، هناك الخليج، وهناك أسعار النفط حيث لم تكتم الاشارة الى قدرتها التحكّمية، وهناك افغانستان من خلال اثنية الهزارا الشيعية المتضررة من التركيبة الأميركية، وهناك ايضاً المحافل الدولية حيث تبدّى، الى هذا الحد أو ذاك، التضامن الذي تستقطبه إيران من روسيا والصين وبقايا حركة عدم الانحياز.
وفي أي تعليل اميركي، أو اسرائيلي، لـ «ضرورة» تحويل التركيز عن «الشرق الأوسط» الى «الخليج»، يمكن استشهاد المثال الكوري. فغالباً ما فُسّر التباين بين الموقفين الغربيين من كوريا الشمالية ومن ايران بوجود دول مسؤولة، كالصين واليابان وروسيا، تستطيع ضبط الأولى، وبما تملكه كوريا الجنوبية من تأثير عليها تبعاً لمساعداتها المالية والغذائية. وقد يقال، استطراداً، ان وضعاً كهذا غير متوافر في محيط ايران الاقليمي، ولا تملك الا الدولة العبرية شروط توفيره. وفي سياق التعليل هذا، يمكن ايراد عشرات الأمثلة على ان نزاعات الأرض قاطبة لا توجب القطيعة، فيما إقامة علاقات، على هذه السوية أو تلك، لا تعني نهاية النزاع. فكيف وأن اطلاقية المشكلة العربية - الاسرائيلية صارت، عملياً، حكراً على أطراف راديكالية تؤجّج الاطلاقية هذه وتفيد منها لأغراض ارهابية؟
وانزياح كهذا من «الشرق الأوسط» الى «الخليج» يكمّل الانزياح، الواقعي والايديولوجي معاً، من «القومي» الى المذهبي، ولو عبّرت عنه «دول» وأنصبة سياسية «حديثة» في ظاهرها. لكننا، مرة أخرى، أمام استراتيجيات ناقصة: فالأميركان لا زالوا يواجهون «السنّة» في العراق، والعكس بالعكس. والايرانيون لا يمكن الا أن تصطدم «شيعية» مشروعهم بخصوم الأميركان من السنّة، في العراق وغير العراق. اما اسرائيل فيصعب أن تنجح في التأهّل الى دور اقليمي وتحكيمي أعلى، قبل أن تنجح في امتحان الدور الراهن، أي قيام الدولة الفلسطينية. وما من شيء يدل على أن الاسرائيليين في هذا الوارد.