بانسحاب الإسرائيليين من غزة، وتجمع نذر باعثة على التشاؤم في ما خص حاضر القطاع ومستقبله، ترتسم عناصر مرحلة جديدة في تاريخ المسألة الفلسطينية، وربما في موقعها أيضاً.
وبطبيعة الحال، يمكن رصد هذين التاريخ والموقع عبر استخدام أدوات عدة. إلا أن الحروب والمواجهات العنفية ودائرة المشاركة فيها ربما كانت الأداة الأدق في فهم المسار هذا، خصوصاً وأن الموضوع الفلسطيني إنما تحكّم به منطق الصراع إلى أبعد حدود التحكم.
ففي 1948، وكما هو معروف، نشبت الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى، بُعيد رفض الفلسطينيين والعرب خطة التقسيم التي اقترحتها الأمم المتحدة أواخر 1947. يومها شاركت في الحرب سبع دول وسبعة جيوش عربية، بيد أن معظم هذه الدول كان حديث الولادة طريّ العود، يعود تسليح جيوشها وتدريبها إلى الدول الاستعمارية المنسحبة. وليس سراً أن هذه الأخيرة لم تغادر مستعمراتها وتوافق على استقلالها إلا بعدما ضمنت لنفسها موقعاً في القرار السياسي والعسكري للدول الوليدة. وكثيراً ما اتخذ هذا الامتياز شكل القواعد العسكرية، أو شكل الإشراف المباشر على الجيش الاستقلالي الناشئ.
وكان ما فاقم التناقض هذا أن البلدان المؤثرة عالمياً، بما فيها الدولتان الاستعماريتان البريطانية والفرنسية، تواضعت جميعاً على تأييد قيام الدولة العبرية والاعتراف بها. هكذا وجد العرب أنفسهم في مواجهة المزاج العالمي لكنهم، في الوقت نفسه، بدوا عاجزين عن الوفاء، عسكرياً على الأقل، بأكلاف هذه المواجهة.
غير أن الموضوع الفلسطيني اكتسب مزيداً من الحرارة والزخم العربيين. فقد تتالت الانقلابات العسكرية التي وجدت بعض حججها في "نكبة 1948" وفي ضرورة الرد، تالياً، على "النكبة". وكانت لحظة الاحتدام الكبرى عام 1956 عندما نجحت مصر الناصرية، مدعومة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على السواء، في إلحاق هزيمة سياسية مدوية بقوى العدوان الثلاثي: فرنسا وبريطانيا وإسرائيل. على أن هذا المكسب الضخم لم يؤد إلى تعزيز علاقة القاهرة بواشنطن وموسكو، بل أفضى إلى العكس تماماً:
ذاك أن عبدالناصر انطلق من انتصار 1956 ليؤسس انقلاباً كاملاً على بُنية النظام الإقليمي القائم. وما بين انقلابات عسكرية (العراق) ومحاولات انقلابية (الأردن) وتفجير نزاعات أهلية (لبنان)، فضلاً عن إقامة الوحدة مع سوريا في 1958، تحول حليفا مصر الكبيران في مواجهة 1956 خصمين شرسين لطموحات عبدالناصر الإمبراطورية.
صحيح أن الزعيم المصري تصالح لاحقاً مع الاتحاد السوفييتي، بيد أن حرب 1967 كانت قلَّصت عدد الدول العربية المحاربة، أو المواجهة، من سبع في 1948 إلى ثلاث فقط (مصر وسوريا والأردن). وقد آلت الحرب المذكورة إلى نتائج مفصلية ربما كان أهمها التالي:
أولاً، أن منطقة الشرق الأوسط تكرّست بوصفها منطقة للقرار الأميركي، فيما الحصة السوفيتية فيها لا تتعدى حدود الاعتراض وممارسة الفيتو. وحصيلة كهذه كانت في غاية الأهمية بالنظر إلى ارتباط حرب 1967 ارتباطاً وثيقاً بالانقسامات الدولية، وتحديداً بالثنائية القطبية، كما بالنظر إلى التطورات التي استجدّت لاحقاً.
وثانياً، أن الأنظمة العسكرية والراديكالية، الناصرية والبعثية، التي بررت وجودها بـ"تحرير فلسطين"، فقدت الشرعية هذه، مثلما فقدتها، من قبلُ، "الأنظمة الإقطاعية" التي هزمت في حرب 1948. وإذ جاء رحيل جمال عبدالناصر، بعد ثلاث سنوات، يعلن بداية نهاية نظامه، اتجه النظام البعثي في سوريا إلى تثبيت قبضته عبر حلول أكثر قسرية واصطناعية، في سوريا نفسها كما في محيطها اللبناني والفلسطيني.
وثالثاً، أن الفلسطينيين شرعوا بأنفسهم يتولون قضيتهم: ذاك أن منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت قد أنشئت في 1964، انتقلت إلى عهدة ياسر عرفات، زعيم منظمة "فتح" الفدائية ومؤسسها، ومعه باقي المنظمات العسكرية الراديكالي منها وشبه الراديكالي. وجاء تطور كهذا ايجابياً بقدر ما جاء سلبياً: فقد نمَّ، من جهة، عن تصدُّر الهوية الفلسطينية بعد طول مصادرة عربية لها. لكنه نمَّ، من جهة أخرى، عن بداية انسحاب عربي تدريجي من الموضوع الفلسطيني الذي اتضح أن أكلافه أكبر بلا قياس من أغنامه.
وزاد الطين بلة أن الصعود الفلسطيني ترافق مع نزاعين أهليين كبيرين، انفجر أولهما في الأردن عام 1970، فيما انفجر الثاني على دفعات في لبنان، ما بين 1969 و1973، ليبلغ ذروته في حرب 1975.
وفي الغضون هذه خيضت حرب أكتوبر 1973 العربية - الإسرائيلية فخاضتها دولتان عربيتان اثنتان هما مصر وسوريا اللتان وقعت بعض أراضيهما تحت الاحتلال في 1967. أما الدولة الثالثة في "حرب الأيام الستة"، أي الأردن، وكانت خارجة للتوِّ من حربها الأهلية، فاستنكفت عن المشاركة، وما لبثت أن تخلت عن وعودها بالضفة الغربية مُحيلةً أمر تحريرها إلى منظمة التحرير بوصفها "الممثل الشرعي الوحيد".
غير أن النتيجتين الأهم لحرب 1973 تمثلتا في خروج مصر من الصراع بتوقيعها معاهدة كامب ديفيد بعد خمس سنوات على سكوت المدافع، وانحصار النزاع العربي- الإسرائيلي في لبنان حيث يتواجد مقاتلو منظمة التحرير وقوات الجيش السوري الذي كانت قيادته قد أوقفت الاشتباك المباشر مع الدولة العبرية بموجب اتفاقية فك الارتباط الموقعة عام 1974.
وقد أدى تفاقم الحرب اللبنانية إلى الغزو الإسرائيلي في 1982 حيث رأينا مساحة المواجهة العربية المباشرة تتقلص بدورها. فقد اقتصر المعنيون بالأمر على لبنان الذي كانت سبع سنوات من النزاع الأهلي قد أدمته وأتلفته، وعلى مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية فيه. وإذ تم ترحيل هؤلاء الأخيرين إلى تونس، شهدت إسرائيل المظاهرة الضخمة الوحيدة (ما بين 300 و400 ألف) في معارضتها الحربَ الإسرائيلية على لبنان والفلسطينيين. وكان واضحاً في هذا كله أن البلدان العربية في عمومها غدت أشد انشغالاً بهمومها الداخلية، السياسية منها والاقتصادية، الديموغرافية والتعليمية، منها بالصراع مع الدولة العبرية التي راح يتأكد تفوقها العسكري الكامل. وكان أحد العناصر الدافعة في الاتجاه هذا أن النفط العربي، بعدما لعب دوره الكبير في حرب 1973، صارت عائداته عرضة للضمور والتآكل بسبب التضخم السكاني.
وبنهاية الثمانينيات تلقت القضية الفلسطينية طعنات متتالية: فدولياً، بدأ الاتحاد السوفيتي تداعيه، هو الذي كان الحليف السياسي والعسكري للعرب في مواجهاتهم السابقة. أما إقليمياً، فكان لحماقة صدام حسين بغزوه الكويت، التي تعاطف عرفات معها، أن حرمت منظمة التحرير دعمها الدولي. وعلى المدى الأبعد، انطلقت عملية إلغاء العراق كدولة عربية محورية، في حسابات المواجهة. لكن الإيجابي في هذا كله، وهو ما عززته انتفاضة الأرض المحتلة آنذاك، تمثل في افتتاح مؤتمر مدريد الذي أفضى إلى اتفاق أوسلو في 1993. وهنا أيضاً، تقلصت رقعة المواجهة لتقتصر على الفلسطينيين وحدهم، إلا أن الأوضاع الإقليمية والدولية تلقفت المعطى هذا محاولة توظيفه في وجهة إيجابية.
وبدت الأمور تأخذ منحى مغايراً، ليس فلسطينياً فحسب بل عربياً أيضاً حيث عقد الأردن اتفاق وادي عربة منضماً إلى ما كانت ابتدأته مصر أواخر السبعينيات. بيد أن التطورات التالية باتت معروفة: فما بين الانتفاضة الثانية وفشل العرض التسووي الذي ارتبط باسم الرئيس بيل كلينتون ووصول أرييل شارون إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وجريمة 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وحربي أفغانستان والعراق، تمكنت إسرائيل من إدراج العمل الوطني الفلسطيني المسلح برمته في خانة الإرهاب. ولم تحلْ وفاة ياسر عرفات وصعود زعامة محمود عباس (أبو مازن) دون انسحاب من غزة غير منسّق مع السلطة الفلسطينية كما لو أنها طرف وهمي.
من ناحية أخرى، كرّست حرب العراق الثانية إلغاء هذا البلد من معادلات القوة والتأثير الإقليمي. وفي الغضون هذه، أقدمت ليبيا القذافية، أقله في لفظيتها الراديكالية، على تحول نوعي في سياساتها العربية، بينما آل اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري إلى وضع بلد راديكالي آخر، هو سوريا، تحت المجهر والرقابة الدوليين، وهذا فيما ستجد إيران نفسها أكثر فأكثر انشغالاً بهمّها المباشر الذي يتحول تدريجاً، ومن خلال الوضع العراقي، إلى همّ إقليمي حاكم. وربما في مناخ كهذا، يمكننا على نحو أفضل فهم دعوة سيلفان شالوم إلى رفع السرية عن العلاقات العربية والإسلامية مع إسرائيل، كأنه يحاول إقناعنا بأن الموضوع هذا أصبح من الماضي!