في الوقت الذي تتخبط فيه الولايات المتحدة بأوحال العراق صباح مساء، نتيجة سوء تقدير استراتيجي وروحية مستكبرة، فبركت واشنطن خديعة أخري شرعت في تسويقها للمجتمع الدولي، مفادها أن سورية هي مشكلة المشاكل في العراق الهادئ.
والتقت كل الروافد الكيدية والرياح السياسية اليمينية، سواء المحملة من واشنطن أو القادمة من غبار العراق علي طبق اسرائيل، مطلقة جميعها حملة من الضغوط غير المسبوقة لعزل دمشق عن المجتمع الدولي، وعن سياقها العربي، عقابا لها علي تمسكها بثوابتها القومية والوطنية، واستقلالية القرار العربي، ولحرف انظار المجتمع الدولي القلق المشدود نحو رحي العراق.
ما يختبره العراق نتيجة ليس لأي دولة عربية يد فيها، بل هو محصلة سياسات تفتيتية كيدية عابثة. والوضع المنفلت في سواد العراق سينعكس بدون ادني شك علي الوضع في باقي الدول العربية، خاصة الخليجية منها، وما يحاك ضد دمشق الان موجود مثله واكثر منه في ادراج وزارتي الخارجية والدفاع والبيت الابيض ضد مصر والسعودية وغيرهما، لكنه مؤجل مؤقتا لتصفية حسابات تسلسلية.
ما تريده واشنطن من سورية هو رفع كل معارضة للنهج والمخططات الاسرائيلية في المنطقة، والمساهمة بشكل كلي في حماية الوجود والمشروع الامريكي الاحتلالي للعراق، واشاحة الوجه عن تسخير كل الطاقات والجهود والموارد العربية لنشر الديمقراطية و الانفتاح و الفوضي البناءة علي الطريقة العراقية.
سورية اعتبرت وما زالت الشعبين العراقي والسوري شعبا واحدا، ووقفت في كل اجتماعات دول الجوار بشراسة ضد تفتيت العراق ومع المحافظة علي وحدته وارضه وسيادته. وما زالت تري الحل في خروج القوات الاجنبية منه، وتفعيل دور الامم المتحدة فيه، والوقوف الدائم معه.
لقد واجهت سورية علي الدوام أعتي الحملات المغرضة للنيل منها، واستطاعت في احلك الظروف ان تقاوم وتوضح بنجاح نهجها للاسرة الدولية، وما زالت تواصل مواقفها الممانعة لتمرير اية مشاريع تهدد استقرار العرب وسيادة دولهم، وهي آمنت علي الدوام بالعمل الجماعي والحوار كسبيل حضاري لرقي ورفعة الامم.
وسورية المتهمة اليوم زورا لم تقف يوما ضد قرارات الامم المتحدة، ولم تضع نفسها في اي مواجهة مع المجتمع الدولي، منذ شاركت بتأسيس المنظمة الدولية، عشية استقلالها، بل كانت الاحرص علي احترام وتنفيذ قرارات الامم المتحدة، وقدمت اسهاما كبيرا في محاربة الارهاب في وقت انكفأ فيه الكثيرون. وحتي القرار 1559 بشأن لبنان، رغم حيفه لم تتردد سورية بالتعاون الكامل معه.
ولم تبخل دمشق يوما في دعم كل ذرة تراب عربية، من السودان الي مصر الي الجزائر فليبيا، وقوفا مطولا علي حماية رمال الخليج، الي وقف اكبر حرب أهلية في التاريخ العربي الحديث في لبنان، الي تضميد جراح خاصرة العرب في فلسطين وحماية تخوم العرب النازفة عبر قرن من الزمان.
أهكذا تكافأ عربيا، بتصيد مواقفها المشرفة وتضخيم أخطائها بنوع من التشفي؟
اين يغيب الموقف العربي والجهد العربي، ولماذا يلوذ أقرب الحلفاء بالصمت السلبي، فيما قلب العروبة يتعرض للسهام. وأين مواقف الاحزاب السياسية واليساريين العرب والاعلام العربي الراعف المرتبك، والدول الشقيقة المرتبكة؟ لا نبالغ اذا قلنا ان النظام الرسمي العربي جله بات واقعا في حبائل الولايات المتحدة ودخل قفص الشرخ الاوسط ، والصراع المتبقي هو كيفية احتواء وتطويق سورية العربية المركزية، وسحب ثقلها ومحوريتها في رسم السياسات الاقليمية، وافقادها القدرة علي فرض شروطها للحصول علي تسوية عربية عادلة في اي مشروع سلام.
فبرأي مخضرمي السياسة الغربيين فان دمشق كانت علي الدوام، رغم رعونة السياسة الدولية، من امهر اللاعبين السياسيين في الشرق الاوسط، وكانت وما تزال تملك أوراق قوة كبيرة، ويحسب لها حسابها في اي مناطحة في المنطقة. ولها من الصداقات الاستراتيجية ما يمتد من الصين الي روسيا الي الهند فاوروبا وامريكا اللاتينية.
والمأمول في اتون اعاصير كاترينا، القادمة من الاطلسي، والتي تضرب المنطقة العربية في هذه الهنيهة التاريخية، أن يتنادي القادة العرب لعقد اجتماع طارئ لمناقشة التهديدات الامريكية الحالية لسورية ومحاججتها وممارسة الضغط علي واشنطن لفتح حوار حقيقي مع السوريين ترعاه الجامعة العربية، والابتعاد عن اساليب التهديد، فمنطقة الشرق الاوسط مرجل يغلي وليس بحاجة الي مزيد من الجمر.