بالطبع ظننتم أن الثورة الثقافة الصينية قد اندثرت وأسدل عليها الستار• أسفي أن أقول لكم جميعاً يا لكم من واهمين، لأنها بدأت للتو! وفي هذه المرة، تنطلق الثورة الثقافية الجديدة ليس من قمة الهرم الاجتماعي السياسي الصيني، ومن ماو تسي تونغ والماويين وكتيباتهم الصغيرة الحمراء التي عهدناها في الثورة الثقافية الأولى، وإنما تنطلق من قاع الهرم السياسي الاجتماعي، ومن القاعدة الشعبية لعامة الجمهور من مستخدمي أجهزة الكمبيوتر وشبكة الإنترنت الدولية• قوام هذه الثورة هي برامج ’’بودكاستر’’ و’’إيبود’’ الإلكترونية وغيرها من البرامج التشغيلية التي تمكن مستخدمي أجهزة الكمبيوتر الشخصي والشبكة الدولية، من التنافس فيما بينهم على هذه الألعاب، وتسويق منتجاتهم الثقافية عبر الشبكة•
أعلم أن بي شيئاً من العجلة في استقراء ملامح هذه الثورة وإرهاصاتها• ذلك أن عدداً قليلاً جداً من الصينيين قد حظي حتى لحظة كتابة هذا المقال، برؤية الـ’’إيبود’’ أصلاً، مما يعني أنهم يعولون أكثر على أجهزة الكمبيوتر الشخصي، في التنافس على نشر وتسويق إنتاجهم الثقافي• وللعلم فإن المقصود بكلمة ’’بودكاستينج’’ هو نوع من التكنولوجيا الحديثة، التي تمكن الأفراد من إنتاج أشعارهم وأغانيهم وصورهم وأفلام الفيديو وغيرها من أشكال الإنتاج الفني المرئي والمسموع، ثم تحميلها على شبكة الـ’’بودكاستينج’’ الخاصة بنشر وتسويق مثل هذه المنتجات• وما أن تنخفض أسعار الـ’’إيبود’’ سواء المعني منها بتشغيل النسخة الحديثة من البرامج الصوتية، أم برامج ’’آبيل’’ -مع العلم أن كلا النوعين يصلحان لتشغيل أشرطة الفيديو- حتى يجد الصينيون سوقاً عالمية واسعة وغير محدودة لمنتجاتهم الثقافية الناطقة بلغتهم•
وقد أتيحت لي فرصة الوقوف على مستقبل هذه الموجة الجديدة من الثورة الثقافية، أثناء زيارتي لشقة صغيرة تقع في إحدى ضواحي شانغهاي، حيث تتمركز شبكة ’’تودو•كوم’’ المتخصصة في منتجات الـ’’بودكاستينج’’• وقد أوضح لي مؤسس ومهندس شبكة ’’تودو•كوم’’ جاري وانج الصيني الأصل، الذي تلقى دراساته في كل من أميركا وفرنسا، أن لديهم سلفاً نحو 13 ألف قناة عاملة، تبث منتجاتها عبر موقعهم على الشبكة، وأنه يجري تحديث المواد المبثوثة عبر 5000 قناة منها على نحو دوري• وقال إنه أصبح في وسع أي مواطن صيني إنشاء قناة الفيديو أو القناة المسموعة الخاصة به على ’’موقع تودو’’، في حين يحق لجميع مستخدمي الموقع زيارة القنوات المختلفة والاشتراك فيها، إلى جانب تحميل ما يريدون من مواد عليها• وفي نهاية الأمر، سوف يصل ’’موقع تودو’’ إلى فرض رسوم اشتراك شهري على المشتركين والمستخدمين•
وفي استطراد آخر، قال جاري وانج ’’إنني أعتزم إنشاء مئات الآلاف من القنوات المختلفة، التي يديرها أفراد عاديون، بينما يحق لملايين المستخدمين زيارتها وتحميل ما يرغبون فيه من مواد على أجهزتهم الشخصية’’• ولا أشك لحظة في أن وانج سوف ينجح في تحقيق طموحه هذا، بالنظر إلى سهولة تحميل منتجات الفيديو والمواد الصوتية المعدة منزلياً، على تلك القنوات• ومما يسهل المهمة أكثر، أنه لا توجد قيود من أي نوع، على التعامل مع ’’موقع تودو’’ - عدا عن الرقابة الذاتية التي يقوم بها الموقع نفسه، ضد كل ما يتعارض مع القوانين الصينية السارية-• أما الأهداف العامة لموقع ’’تودو•كوم’’ فقد لخصها وانج كما يلي: إننا نهدف إلى ترسيخ الصلة بين الصينيين وذوقهم الفني، إضافة إلى ربطهم بالمشاركين والمتعاونين المحتملين معهم• هذا ونتوقع أن تكون لنا قاعدة محتويات ضخمة جداً، وسوف نسعى لاقتسام العائدات مع من يوفرون لنا تلك المحتويات والمواد•
وعن نوعية مضمون هذه المواد، اعترف ’’وانج’’ بأن كثيراً منها غث وركيك، إلا أنه أكد أن هذا الواقع سيتغير بعد حين ليس بالبعيد• والدليل أن الأدوات المستخدمة في إنتاج مواد الـ’’بودكاستينج’’ سهلة وبسيطة جداً، الأمر الذي يزيد من حدة المنافسة، ويفرض معايير الجودة النوعية عليهم، إلى جانب حفز رغبة التجريب والابتكار لديهم• يذكر أن وانج نفسه لم يسمع بكلمة ’’بودكاستينج’’ إلا قبل 13 شهراً! أما اليوم فهو يعد على رأس أكبر وأشهر موقع للبودكاستينج على نطاق الصين كلها• وحتى هذه اللحظة، فاق عدد المستخدمين المسجلين في الموقع، المئة ألف مشترك، إلى جانب ثمانية موظفين يعملون فيه، يساعدهم أربعون آخرون من المتطوعين، ومستثمر أميركي واحد، يساعد في تمويل الموقع ومده برأس المال اللازم•
وتسري المعلومات والأخبار الخاصة بالموقع مجاناً عبر مستخدمي الشبكة والموقع معاً• ولا تزيد تكلفة مكتبه على ما يعادل 500 دولار شهرياً، في حين يستخدم المكتب نفسه مأوى لبعض الموظفين العاملين فيه• إلى ذلك يستخدم الموقع برامج تشغيلية مجانية، تتيحها الشبكة الدولية، بما فيها لغة البرمجة وقاعدة البيانات وغيرهما• أما اللوغاريثمات والعمليات الحسابية التي يعمل الموقع على أساسها، فقد تولى ’’وانج’’ كتابتها وإعدادها بنفسه• وعلى خلاف الثورات التكنولوجية الثقافية السابقة، التي شهدها الغرب ثم انتشرت منه شرقاً، فإن المتوقع لثورة الـ’’بودكاستينج’’ هذه أن تنتشر عكساً من الشرق إلى الغرب، بل إلى العالم كله في وقت واحد، بفضل الشبكة الدولية، وما توفره من أدوات تكنولوجية مجانية• ولهذا السبب، فإن ظاهرة العولمة ستكف عن أن تجري فيها ’’أمركة’’ العالم، بقدر ما تكون مزيداً من عولمة للثقافات والقيم المحلية• وذلك هو ما أكده ’’وانج’’ بقوله ’’إن لدينا أغاني وأشياء مختلفة، نريد لها أن تسمع ويشاركنا فيها الآخرون• وسوف يكون في وسع البشرية كلها أن تستمد المعرفة والإلهام من قاعدة تكنولوجية واحدة مشتركة• غير أنه ينبغي أن تسود وتزدهر عبر هذه القاعدة، أصوات وثقافات شتى• إننا نشترك في تربة واحدة، ولكن من الضروري أن تنمو فيها مختلف الأشجار’’•