حين ظهر تقرير ديتليف ميليس، ردت سورية، عبر وزرائها وديبلوماسييها و «صحافييها»، بصوتين: فهي، من جهة، اتهمت ميليس بالكذب والخداع وقالت إن تقريره زائف محشوّ بالأكاذيب. لكنها قالت، من جهة أخرى، انها ستتعاون مع الجهد الدولي كما يتمثل في لجنة التحقيق.
وغني عن القول إن التناقض صارخ بين هذين الصوتين يصدران عن الحنجرة نفسها: فإذا كان التقرير مسيّساً ومزيّفاً، فكيف يمكن التعاون مع القيّمين عليه؟ وإذا كان مما ينبغي التعاون معه، بات من المفروض به الا يكون مسيّساً ومزيّفاً.
ما لا شك فيه اننا، هنا، نقف وجهاً لوجه أمام ورطة الحكم السوري التي استحكمت فوصلت الى نطاق ضيق هو أسرة الرئيس نفسه، كما غدت تطرح الاحتمال الليبي بديلاً عن الاحتمال العراقي، أو العكس، علماً بأن كلفة الاحتمال الأول ستكون، بالقياس، طفيفة جداً.
فدمشق إن لم تقل إن التقرير مغرض وسيء، بدا الأمر إقراراً منها بالضلوع في الجريمة. وهي إن لم تقل إنها ستتعاون، بدا الأمر خروجاً على ارادة دولية يكمل عزلة سورية ويرفعها الى سوية خانقة. ووراء ذلك ان الباب موصد على المساومة لأن الموضوع لم يعد «حماس» و»الجهاد» و»حزب الله» و»المقاومة العراقية»، بل السادة الأقارب أنفسهم. لكنه، ايضاً، موصد على المقاومة لأن سورية غير مهيأة عسكرياً واقتصادياً لذلك، كما لا تحظى «مقاومتها»، انطلاقاً من رفضها تقرير ميليس، بأي تعاطف يتجاوز دائرة المتعاطفين مع الزرقاوي في العراق.
ومأزق عميق كهذا لا يمكن الالتفاف عليه بتظاهرة محامين! أو بتصريحات يدلي بها على شاشة التلفزيون صحافيون تابعون للنظام وحزبه وأجهزة إعلامه. فقد دفع البعثيون سورية الى مكان بات معه الانقاذ الوحيد الممكن التضحية بالبعث، ولو في صورية تدريجية، من أجل تخليص سورية.
وحين يقال التضحية بالبعث يكون المقصود وضع حد لسياسة الاستبداد العسكري والأمني بالشعب السوري. أما «الرعاية» في لبنان، وأعلى تجلياتها جريمة اغتيال الرئيس الحريري، فتتمةٌ «منطقية» لتلك التركيبة الداخلية التي تولّد الأزمات الناجمة عن الفارق بين الممكن والمعلن، ثم تصدّرها الى الخارج بنفس السخاء الذي تولّدها فيه.
وقد تكفي المقارنة بين تلك «الدولة»، وقد أضاء تقرير ميليس، ولو إيحاءً، بعض طرق اشتغالها، وبين نزوعها الامبراطوري الفضفاض، لتبيّن السبب العميق للكارثة السورية الراهنة وطبيعة النظام العسكري - الايديولوجي بوصفه نظاماً منتجاً للأزمات في صورة مستمرة.
واليوم غدت الحقيقة صافعة لا تترك كبير مجال للتحايُل على الواقع. فالتضحية بالبعث غدت التعبير المرادف لتخليص سورية والمساوي له. لكن تقرير حقيقة كهذه يثير المشكلة أكثر مما يحلها: صحيح ان «اعلان دمشق» الأخير جاء يحمل وعداً إيجابياً ويعكس نضجاً لدى المعارضة السورية يحدان قليلاً من التشاؤم التاريخي. الا أنها بداية، مجرد بداية، على طريق التضحية بالبعث. وأكبر عثرات الطريق هذه، إن لم يكن مهاويها، استجابة المجتمع الأهلي السوري بمناطقه وطوائفه وجماعاته، سيما وأن النظام، كما تدل تجاربه جميعاً، لن يتراجع قيد أنملة عن قبضة استئثاره الحديدي. لكن شيئاً واحداً، في هذه الغضون، يمكن الجزم فيه، هو ما سبق ان تمناه بعض المعارضين السوريين وبعض السياسيين اللبنانيين، من أن لا يقع العقاب على شعب سورية. فخيار، غربي أو دولي، كهذا يفتقر الى العدالة بقدر ما يفتقر الى النفع: فهو يكمّل الوظيفة البعثية في تعذيب شعبها، ويطيل طريق الخلاص مضاعفاً احتمالات الفوضى التي يخشاها الجميع.