ياسين الحاج صالح/ موقع الرأي
ترافق الإعداد الأميركي لغزو العراق حملة إعلامية وإيديولوجية تصر على أنه لا يمكن تغيير أنظمة ديكتاتورية من شاكلة نظام صدام حسين إلا من الخارج. وشعر كثيرون أن حساسياتهم الفكرية والأخلاقية تملي عليهم رفض هذا الطرح، والإصرار على أن التغيير لا يأتي إلا من الداخل. ولم يكن من المفاجئ أن خصوم نظام صدام حسين من العرب والأكراد كانوا ميالين بمعظمهم إلى وجهة النظر الأولى، فيما انحاز أعداء السياسة الأميركية، العراقيون والعرب، إلى الوجهة الثانية.
تمثلت حجة الطرف الأول الأساسية بأن الداخل العراقي ضعيف ومشلول، وتاليا غير قادر على تحدي وتغيير نظام شرس مخيف، أسكن الخوف في قلوب العراقيين وحطم معنوياتهم طوال سنوات حكمه الخمسة والثلاثين. وقفزت من ذلك إلى وجوب تأييد الغزو الأميركي والاستعداد للعمل تحت سيطرته لإدارة البلد المحتل، دون أن تشغل بالها بأولويات الأميركيين ودوافعهم وخططهم في العراق و»الشرق الأوسط». هذا فيما كانت حجة الطرف الثاني مستمدة من عدائه للأميركيين، دون أن تقترح مخرجا للتغيير العراقي نحو نظام أكثر حرية وعدالة، الأمر الذي كان يعادل عمليا تسويغ نظام يسحق الداخل العراقي ويعقّمه.
الشرط الاستقطابي للنقاش والحياة السياسية والإيديولوجية المشرقية، والناجم هو ذاته عن انسداد سياسي وفكري مديد، سكب النقاش تلقائيا في تقابل مانوي بين داخليين مطلقين وخارجيين مطلقين. يغطي الأولون برفض الهيمنة الأميركية على رفضهم للتغيير أو عجزهم عن تصور مخرج من نظام طغياني عنيف، ويخفي تحمس الأخيرين للتغيير التحاقا ارتجاليا بمخططات الأميركيين. قد يمكن فهم الاستقطاب هذا بالنظر إلى الطابع الحيوي بل المصيري للقضايا مثار النقاش، لكن متى كان النقاش المتوتر، السهل الانزلاق نحو التخوين (قوميين) أو التكفير (إسلاميين) أو التسفيه (حداثيين) مجدياً في مناقشة القضايا؟ لطالما غطت مصيرية القضايا على ركاكة النقاشات ورثاثة «النخب» وبؤس السياسات. بالنتيجة بقيت ظلت قضية التغيير نهب تجاذب إيديولوجي سابق عليها ومستقل عنها، يستأنف سيرة ثنائيات قارة في الثقافة العربية الحديثة (ونميل إلى الاعتقاد بان أصل جميع الثنائيات هو الموقف التأملي للمثقفين، وهذا ذاته موقف متصل بهامشية المثقفين السياسية).
ثمة نقاش مشابه لذلك اليوم بخصوص سورية. النظام ووكلاء إيديولوجيون له يؤكدون أن التغيير الوحيد المقبول هو الداخل الذي يمسكون به بقبضة عنيفة، فيما يستند بعض خصوم النظام إلى تحكمه التام بالداخل للانحياز لما يفترض انه مشروع أميركي لتغيير النظام والمنطقة.
السؤال الذي قد يفيد طرحه لإنارة المسألة ليس ما إذا كان التغيير يأتي من الداخل أم من الخارج، بل بالأحرى في أية شروط يكون الخارج سندا لتغيير داخلي ذاتي الإصلاح، أي يقود إلى تفوق التفاعلات الداخلية للمجتمع المعني، عددا كثافة وأهمية، على تفاعلات أية قطاعات منه مع الخارج؟ وفي أية شروط يكون التغيير المدعوم من الخارج مفضيا إلى التبعية والتفكك الداخلي، على غرار ما يظهر المثال العراقي؟
تضمر صيغة السؤال هذه أن التغيير الداخلي المحض ليس متاحا، لكنها تفترض أيضا أن تغييرا يتكفل به الخارج سيخدم مصالح الخارج وحده. بعبارة أخرى، التغيير الداخلي غير ممكن والخارجي غير ديموقراطي. والسؤال كذلك لا ينكر أنه في عالم اليوم بات المفهوم الصوري لكل من الداخل والخارج غير مجد، لا من أجل فهم السياسات المحلية والدولية، ولا من أجل وضع سياسات فعالة للعمل في بيئة دولية تزداد تفاعلا وقسوة في الوقت نفسه.
نفترض، جوابا عن السؤال، أنه كلما توفرت في البلد المعني قوى مستقلة ومعارضة أكثر تنظيما وعقلانية واعتدالا ونشاطا كان دور الخارج أكثر إيجابية، وبالعكس كلما كان المستقلون والمعارضون الداخليون أضعف وأكثر أنانية وأميل للتطرف كان دور الخارج أدفع نحو التبعثر والانقسام وفقدان الاستقلال والسيادة. إن قوى معارضة وازنة أقدر على لعب دور طرف مستقل، وأمنع من تستخدم كأداة من قبل الفاعلين الخارجيين. فيما يسهل استتباع قوى «خفيفة» واستخدامها واجهات للسيطرة الخارجية، الأميركية دوما في هذا السياق.
ثمة مفارقة جلية هنا: إذا كانت القوى المعارضة منظمة ومؤثرة فإنها تتكفل بالتغيير دون حاجة لمساندة خارجية. بالضبط. هذا ما نريد قوله. يكون دور الخارج إيجابيا حين يكون في حده الأدنى. إن إشكالية داخل/ خارج التي فرضت نفسها على النقاشات حول التغيير في المشرق العربي تغطي على المسألة العملية الأهم، أي كيفية بناء القوى المنظمة القادرة على إدارة مرحلة الانتقال من الديكتاتوريات إلى نظم قابلة للإصلاح. لا ريب بالمقابل أن هيمنة هذه الإشكالية تعكس ضعف القوى المنظمة وحيرتها وعجزها.
ليس ثمة غير حل عملي لهذه المسألة العملية: بذل الجهد لتوسيع قوى النظام والعقلانية وتعزيز فاعليتها. وإذا تروينا في الأمر قد نتبين أنه ليس لهذا الجهد علاقة ضرورية بإشكالية داخل/ خارج، وإن كان يستجيب لها بأفضل صورة ممكنة. إنه ضروري دوما، ومفيد دوما. فإذا وقع غزو خارجي، أمكن لمجتمع منظم نسبيا أن يتحمله ويواجهه بنجاح أكبر من مجتمع مفكك. وتجنب مخاطر الفوضى ممكن أكثر عند توفر قوى منظمة مؤثرة. ثم أن وجود القوى هذه يساعد أيضا على تحمل الأنظمة الاستبدادية ما دامت، وربما أيضا على مواجهتها وفرض التنازلات عليها.
لعله لذلك يتعين تغيير مركز ثقل النقاش حول التغيير الديموقراطي في البلاد العربية من عملية التغيير (أو التحول أو الانتقال) بحد ذاتها إلى عملية بناء القوى المنظمة المعتدلة. تكون قضية التحول الديموقراطي محلولة مبدئيا بقدر ما تتسنى لمجتمعاتنا قوى منظمة ومعتدلة وعقلانية. وإذ نلح مرارا على عقلانيتها واعتدالها فلأن هاتين الصفتين مكوّنان أساسيان لتنظيم القوى الفعال، بينما التطرف مضاد للتنظيم. وكذلك لأن العقلانية والاعتدال أهم في مراحل الانتقال من العواطف الديموقراطية، حتى المخلصة منها.
التغيير، بالعكس، يرتد إلى محض انقلاب في ظل فراغ في التنظيم السياسي والاجتماعي والفكري، استبدال للسياسيين دون تغير في نظام السياسة والسلطة. ولو قام جورج بوش بدور بابا نويل، وأهدى بلادنا ديموقراطية جديدة تماما، في «كرتونتها»، فإن ضعف القوى المنظمة المعتدلة العقلانية والديموقراطية من شانه أن يتسبب بتعطلها وانقلابها على نفسها. بالمقابل، لو «أهدانا» بوش غزوا، فإن من شأن وجود قوى منظمة أن يخفف من آثاره وربما نجح في كسب المعركة السياسية والأخلاقية ضده.
بالجملة، يساعد «العامل الخارجي» من يساعدون أنفسهم. لكن من يساعدون أنفسهم يساعدهم كل شيء.