النهار/سركيس نعوم
في لبنان حالياً اربعة ارقام صعبة اذا جاز التعبير من الناحية السياسية. ويعني ذلك ان بت أي شأن لبناني داخلي او متصل بالوضعين الاقليمي والدولي سيكون مستحيلاً او على الاقل بالغ الصعوبة من دون موافقتها كلها. وتأكد ذلك اخيراً لمن كان لا يزال لديه بعض الشك في ذلك من خلال أمرين. الأول، عجز ممثلي الغالبية النيابية في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عن تحقيق اجماع شعبي وسياسي لبناني حول مطلبي انشاء محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري وتوسيع التحقيق الدولي ليشمل كل جرائم الاغتيال التي حصلت منذ نيف وسنة. والثاني، عجز ممثلي الطائفة الشيعية في الحكومة الذين حصر الشيعة تمثيلهم في مجلس النواب بهم رغم رفضهم الطلبين وتعليقهم عضويتهم في الحكومة عن تحقيق اجماع شعبي وسياسي حول رفضهم هذا. وقد تسبب ذلك بأزمة خطيرة تكاد ان تضع انجازات كثيرة تحققت في الاعوام الماضية على كثرة السلبيات فيها، على طريق الاجهاض.
الارقام الصعبة الاربعة هي الثنائي الشيعي الممثل بـ"حزب الله" وحركة "أمل" وتيار "المستقبل" بزعامة النائب سعد الحريري والزعامة الجنبلاطية (الدرزية اساسا) التي يعبر عنها "اللقاء الديموقراطي" النيابي المتنوع طائفياً ومذهبياً، و"التيار الوطني الحر" الذي أسسه ويقوده العماد ميشال عون. لكن اللافت هنا هو ان كلاً من الارقام الثلاثة الاولى يبدو للناس او للرأي العام ثابتا في استراتيجياته العامة وفي سياساته ومواقفه حيال القضايا المطروحة وطنية كانت أو قومية او سياسية أو اقتصادية او اجتماعية. وقد يكون الثبات المذكور أياً تكن خلفياته وابعاده احد اسباب تعذر الاتفاق في ما بينها او على الأقل أحد أسباب صعوبة التوصل اليه. اما الرقم الاخير فيحير الناس والرأي العام كما يحير الاوساط السياسية التي يمثلها في لبنان. وقد تكون الحيرة ناتجة من أمر مهم هو ان العماد ميشال عون لم يبدأ عمله السياسي المباشر من داخل لبنان الا منذ نحو تسعة أشهر، والعمل من داخل يختلف كثيراً عنه من الخارج، فأيام كان في المنفى كان جهده ينصب على العودة مرفوع الرأس موفور الكرامة والحقوق ورافضاً الظلم الذي لحق به وعلى مقارعة الجهات التي حرمته وطنه على مدى 15 سنة من اقليمية مسيطرة ومحلية "متحالفة" معها. اما بعد عودته فصار من واجبه التعاطي مع كل القضايا التي من شأنها اما تغليب فريق على آخر واما تعديل ميزان القوى الداخلي الأمر الذي يفتح الباب امام معارك سياسية متواصلة لا نهاية لها قابلة للتحول في مراحل لاحقة غير سياسية. "الجنرال" فعل ذلك بعد عودته فشغل الدنيا وملأ الناس بحيث صار "بيضة القبان" في رأي كثيرين اولهم مناصروه. ورغم نشاطه السياسي والشعبي الكبير فان الحيرة عند الناس والرأي العام لم تتبدد، يظهر ذلك من خلال تحليلات لمواقفه قام بها ويقوم يومياً القادة والزعماء والمحللون والخبراء والمراقبون.
ما هي هذه التحليلات؟
ابرزها اربعة. التحليل الأول، يعتبر اصحابه ان التواصل الجاري بين عون وتياره من جهة و"حزب الله" من جهة اخرى والذي قد يصل الى خاتمة ايجابية قريباً الأمر الذي يعدل الخريطة السياسية في الداخل اللبناني، يعتبر ان كل ذلك ما هو الا رفقة خندق في مواجهة الآخرين ورفقة طريق على طريق تحقيق كل من طرفي هذه الرفقة عدداً من الاهداف، وهي ليست على الاطلاق رفقة مشروع. فتاريخ الصراع السياسي بينه وبين سوريا وحلفائها اللبنانيين طويل وقاس جداً. وهو هذا التاريخ الذي مكّنه من تعزيز الشرعية المسيحية التي استحقها عامي 1989 و1990 ولاحقاً من الاستئثار بتمثيل غالبية المسيحيين في البلاد. وهو اعتبر نفسه ولا يزال "اب" القرار 1559 الذي يرفضه "حزب الله" ومقاومته لاستهدافه اياهما، وهو يتمسك بايجاد حل لسلاح الحزب بالانسجام مع الشرعية الدولية وهو على علاقة طيبة وربما ممتازة مع المجتمع الدولي الذي يخافه هذا الحزب ويتحسب لمواقفه ويعد العدة للدفاع عن وجوده ضده. ونتيجة لذلك يستغرب اصحاب هذا التحليل أي توافق عميق واستراتيجي بين عون و"حزب الله" وربما يستبعده ويتفهم في الوقت نفسه التلاقي السياسي معه في هذه المرحلة وربما في مراحل اخرى وفقاً لمصالح كل منهما.
والتحليل الثاني، يعتبر اصحابه ان العماد عون حسم خياراته بعد عودته الى لبنان. فهو من جهة قال ولا يزال يقول ان سوريا قد خرجت من لبنان في 26 نيسان الماضي وان مسؤولية كل ما يجري في الداخل يتحملها اللبنانيون وخصوصاً حكومتهم مناقضاً بذلك جهات لبنانية اساسية اخرى. وهو من جهة اخرى فتح الباب امام علاقات سياسية مع اخصام الامس، او اعداء الأمس مانحاً اياهم قوة افتقدوها لمتابعة الصراع مع الغالبية الجديدة في مجلسي النواب والوزراء. وهو من جهة ثالثة قد يكون متجهاً الى تحالف سياسي واسع "ثنائي" وبكل المعاني في العمق رغم وجود منتمين اليه من كل الطوائف والمذاهب. ومن شأن ذلك تركيب صيغة لبنانية غير شاملة ومفتوحة مستقبلاً على خضات كثيرة عندما تسمح تطورات اقليمية بذلك. والتحليل الثالث، يعتبر اصحابه ان ما يهم العماد عون هو وصوله الى رئاسة الجمهورية ليس حباً بالمنصب فقط، بل اقتناعاً منه بمشروعه "الوطني" وبقدرته على قيادة مسيرة لبنان نحو الخروج من الحروب والازمات في الداخل ومع الخارج ودخول دولة السلم الاهلي الحقيقي اللاطائفي ويستدلون على ذلك بفتحه خطين سياسيين متناقضين يمكن اي منهما ان يحقق له طموحه المزمن. الأول، مع "حزب الله" وحركة "أمل" وزعامات سياسية وحزبية كانت حليفة لسوريا وما زالت حليفة لها. والثاني، مع تيار المستقبل وغيره ومع الزعيم الجنبلاطي، ويعتقدون انه قد يسير مع الخط السياسي الذي يتفق معه على جملة امور منها مشروعه ومنها قيادته تنفيذه. اما التحليل الرابع والاخير، فيعتقد اصحابه ان صعوبات كثيرة تواجه العماد عون الآن وستواجهه مستقبلاً وخصوصاً اذا وافقت التيارات السياسية اللبنانية (أي الطائفية والمذهبية) على انتخابه رئيساً للبلاد. ويلخص هؤلاء الصعوبات بالاسئلة والتساؤلات الآتية: هل يعي "الجنرال" ان رئيس الطائف هو غير رئيس ما قبله؟ وان سلطة الرئيس السابق والحالي الياس الهراوي واميل لحود تجاوزت سلطة رئيس الطائف؟ اي سلطة رئاسية من هاتين الاثنتين يريد عون ان يمارس؟ وهل يقبل اصحاب الارقام الصعبة المذكورين اعلاه برئيس مشابه من حيث السلطة للحود والهراوي؟ وماذا يحصل اذا حاول ممارسة رئاسة كهذه؟ وهل يقبل في ظل أي تحالف سياسي يوصله الى السلطة ان يكون ومن يمثل مجرد ديكور؟
ما المقصود من هذا الكلام الآن؟ تعطيل الحوار الجديد بين عون و"حزب الله" أو دفعه الى التحالف مع الآخرين مثل تيار "المستقبل" و"اللقاء الديموقراطي" (الجنبلاطي)؟
لا هذا مقصود ولا ذاك. المقصود هو لفت الجميع، مع احترامنا الكبير لكفاياتهم ووطنيتهم الى ضرورة الصدق في التحالفات اياً تكن، والابتعاد عن الاهداف "الدفينة" او المضمرة، وعدم الاعتقاد الى درجة الاقتناع بأن شخصاً بمقدوره اياً تكن اهميته ان يحل المشكلات المتراكمة لوطن او لطائفة أو لمذهب او لقبيلة او لشعب. او بأن مجرد وصوله الى السلطة يشكل الحل لهذه المشكلات. والمقصود ايضاً هو لفت "الجنرال" عون ونحن من الذين يقدرونه ويشيدون بنضاله رغم الانتقاد لبعض السياسات، الى ان جمهوره وهو مسيحي بأكثريته الساحقة سار معه متخلياً عن كل "الالهة" الذين سبقوه لمواقف معروفة. وعليه قبل ان يتابع قيادة هذا الجمهور في الاتجاه الذي جعله يؤمن به او في اتجاه آخر قد يكون مناقضاً او على الاقل مختلفاً ان يقنعه (أي هذا الجمهور) كي لا يتكرر ما حصل عامي 1989 و1990 مع غيره. فيورث جمهوره الذي ورثه من قائد وجهة سياسية طويلة عريضة في العامين المذكورين الى قائد آخر وجهة سياسية اخرى.