الدستور/ حياة الحويك عطية
دراسة مهمة للباحث الفرنسي شارل دو سان برو، المتخصص في قضايا العالم العربي، تسلط الضوء على قضية مهمة تجتاح العالم العربي منذ اكثر من نصف قرن، لكنها لم تسجل نجاحا يهدد بالخطر الا منذ فترة لا تتجاوز العقدين. انها مسألة التبشيريين المسيحيين الغربيين الذين كانوا يحاولون منذ بداية القرن وتحت ستار الدين زرع قواعد من الموالاة للغرب على امتداد الساحات العربية التي تتسم بالتعددية الدينية. غير ان سان برو لا يعرض للظاهرة التاريخية كلها وانما للفصل الحديث منها المتعلق بالتبشيريين الاميركيين المرتبطين بالمحافظين الجدد، او بالاحرى ما يسمى بتيار المسيحيين المتصهينين موردا وقائع وارقاما وموثقا تغلغل هذه الظاهرة في اقطار العالم العربي واحدا واحدا، حتى تلك التي لا يتواجد فيها العرب المسيحيون.
المعلومات القيمة التي يوردها الباحث تقتضي اكثر من تعليق سواء على مستوى الموضوع نفسه، ام على صعيد جدوى وكيفية طرح هذا الموضوع على الساحة الاعلامية العربية على مستوى الموضوع: عندما نقول ان هذه الظاهرة اتسمت بالخطورة في المرحلة الاخيرة فذلك لاسباب اهمها:
اولا: ان المذاهب الدينية التي باتت تقف الان وراء الحملات التبشيرية هذه، لم تعد تلك القديمة التي كانت تنحصر بالكاثوليكية والبروتستانتية التقليدية، حيث نشأ تيار المسيحية المتصهينة في الولايات المتحدة الاميركية وتماهى مع تيار المحافظين الجدد المتماهي بدوره مع الفكر اليهودي الصهيوني، وبات هذا التيار هو من يقف وراء الجزء الاكبر من الحملات التبشيرية، وهو من يمتلك الامكانات المادية الهائلة والنفوذ الكبير على جميع الصعد الاعلامية والجامعية والتجارية.. الخ، مما يمكن نشطاءه من تقديم الاغراءات التي يسيل لها لعاب الكثيرين من ضعفاء النفوس والعقول، او ضعفاء النفوس دون العقول، بمعنى ان هناك من يعرفون جيدا لماذا يرتمون في التيار ويبيعون انفسهم باسم الايمان الجديد، كما ان هناك من السذج او الضائعين من يجدون في هذه الهلوسات ملجأ وقناعة.
السبب الثاني هو ان هذه الحملات لم تعد تركز على المسيحيين فحسب بل انها تعدتهم الى استهداف اتباع الديانات الاخرى من مسلمين وغيرهم، (البوذيون في اسيا بشكل خاص)، وهي لا تعدم الوسائل للتأثير في صفوف هؤلاء ايضا.
السبب الثالث، والخطير يكمن في ان هذه المدارس الدينية لم تبق الا على القليل القليل من المسيحية فيما تنقله وتعلمه، حيث استندت بشكل شبه كلي الى التوراة اليهودية، والى ما ينسجه الخيال المدروس حول ذلك من اساطير، تجعل من العملية التبشيرية هذه عملية تهويد باسم المسيحية، تكون اولى ضحاياها المسيحية نفسها. ومن اللافت جدا ان هؤلاء لم يعودوا يجهدون انفسهم في اخفاء ارتباطهم باليهودية ولا يتوانون، عن التصريح بتعاطفهم مع اسرائيل دون ان ينحصر دورهم في هذا الاتجاه فقط بل طالما اوكلت اليهم نشاطات اخرى لا تقل خطورة، من مثل عملية تفريغ العالم العربي من مسيحييه الاصليين، عبر تسهيل الهجرة. وقد رأينا كيف عملت هذه الجهات، كخلية نحل نشطة على تهجير مسيحيي فلسطين وعلى الافادة من وضع الحصار لتهجير مسيحيي العراق.
وتدل دراسة سان برو على ان هذا النشاط المكثف قد امتد الان الى سوريا بشكل خاص، دون ان يوفر الاخرين بما فيهم السعودية.
اما السبب الرابع فيتعلق بجوهر القضية، وهو ان هذا الغزو ليس اطلاقا غزوا للاسلام كما يتبادر الى الذهن البسيط، وانما هو غزو يستهدف اولا وقبل كل شيء تدمير المسيحية الشرقية، ولا نقصد بالشرقية هنا الارثوذكسية كما هو متعارف عليه، وانما جميع الكنائس المشرقية الاصلية التي ما تزال مستعصية على التهويد الكلي الذي يستأصل المسيح من المسيحية؛ فالحرب الشرسة التي بدأ اليهود شنها لتهويد المسيحية اتت اكلها بشكل كبير في الغرب، لكنها لم تستطع بعد اجتياح المسيحية في المشرق، وذاك ما هو مطلوب الان، وبحدة اكبر، فاذا كان المبرر الغربي هو السيطرة على الثقافة هناك وتحويلها الى يهو- مسيحية، فان هذا المطلب يتعزز اكثر في العالم العربي، وخاصة فيما يعتبر ارض اسرائيل الكبرى، حيث يصبح التهويد الثقافي والديني، ركنا اساسيا من عملية تحقيق المشروع الصهيوني، اضافة الى عنصر اخر هو ان المسيحية بصيغتها المشرقية تشكل هنا، الى جانب الاسلام ركنا اساسيا من اركان الهوية الثقافية للامة، وهذه الهوية بصيغتها التعددية هذه هي التي تشكل الهوية العدو لتلك التي يريد المشروع الصهيوني فرضها.
من هنا يكون الصراع مع المسيحية العربية جزءا لا يتجزأ من صراع الهويتين على الارض الواحدة، ويكون هذا الزحف التبشيري الغربي المتهود جزءا من المعركة الهادفة الى تدمير مكونات الهوية المحلية، مما يذكرنا بمقولة بيغن بعد كامب ديفيد: ’’حتى ولو حل السلام بين العرب واسرائيل فان الصراع بين الحضارتين العربية واليهودية سيظل قائما الى ان تنتصر احداهما على الاخرى’’، كما يذكرنا بدعوى الحاخام المر بيرغر بعد حرب اكتوبر الى ’’تهويد اسرائيل الكبرى عبر الثقافة والاقتصاد’’، والدين اول مكونات الثقافة، خاصة عندما يكون دينا ولد من رحم الثقافة المعنية وعلى ارضها كما هو حالنا مع المسيحية والاسلام.
لا يتعارض هذا الواقع اطلاقا مع كون العملية تصب في خدمة المشروع الاميركي، حيث اصبح المشروعان الاميركي والصهيوني متماهيين والى اجل لا نعرفه... اجل تستطيع معه المجتمعات الغربية والاميركية التحرر من الهيمنة اليهودية على فكر الانتلجنسيا التي تحكمها. من هنا تأتي الملاحظات الثانية المتعلقة بكيفية وجدوى طرح هذا الموضوع على الساحات العربية: فلا شك ان هذا الطرح ضروري، وعلى صعيد موسع ومعمق، غير ان جملة ضوابط يجب ان تحكم عملية التناول: اولاها عدم الخلط بين المسيحية الاصيلة، وبين هذه الطوارىء المرضية، والتركيز على قول ذلك وتبيانه، بل وعلى كون المسيحية ثقافة محلية، متجذرة في تاريخ امتنا وفي كيانها، ومتواصلة في الاسلام نفسه. تركيز تفرضه الموضوعية العلمية وواجب الحقيقة، كما تفرضه الغائية الواعية، التي تجعل من الهدف المقصود، الدفاع عن ثقافة الامة، بكل مكوناتها، والتصدي لعملية التهويد المدمرة، وازالة التشويه الذي يحاول الاعداء رسمه بوعي كامل.
تشويه يطال اول ما يطال المسيحية والعرب المسيحيين، ويغذي اول ما يغذي التشكيك والريبة والاحقاد الدينية والطائفية، ويوسع الاخاديد بين ابناء الامة الواحدة، فيما يؤدي الى نتيجتين خطيرتين: الاولى دفع المسيحيين بقوة الى الوقوع في فخ هذه البعثات، والثانية تغذية الذهنية الاحادية الاتهامية الظلامية عند المسلمين، واذا بالفريقين ينفذان دون ارادة مخطط اليهود.
وفي اطار هذا الوعي، يكون من الجيد عمليا نقل المعلومات التي يقدمها لنا باحثون جادون كشارل دو سان برو، خاصة ان قلة من هؤلاء ما تزال خارج الهيمنة اليهودية، على ان ترفق هذه المعلومات بالتنبيه المتقيد بالضوابط المذكورة، والا انقلبت على الغاية المقصودة منها، وصبت رغما عن صاحبها، في المخطط المذكور نفسه.
يا الهي: كم يلزمنا من الحذر!!