هكذا إذاً. كان كل شيء يسير على ما يرام إلى أن قرّر الشعب الفلسطيني ممارسة عقوقه، لا حقوقه. فعل ذلك بديموقراطية. إلا أنه أفقد الديموقراطية، بفعلته هذه، الكثير من معانيها...
هكذا إذاً. كان كل شيء يسير على ما يرام إلى أن قرّر الشعب الفلسطيني ممارسة عقوقه، لا حقوقه. فعل ذلك بديموقراطية. إلا أنه أفقد الديموقراطية، بفعلته هذه، الكثير من معانيها: هل يُعقل لها أن تُنتج أكثرية تعطي الأولوية لمقاومة الاحتلال، أو، على الأقل، لتعريف العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين بصفتها علاقة محتل بخاضع للاحتلال؟
نجد أناساً يدّعون أنهم جديرون بالاحترام يقولون إن إسرائيل ستقرّر بعد ما جرى الانفصال عن الفلسطينيين، وإن إجماعاً وطنياً من اليمين إلى اليسار يجنح نحو ذلك الخيار. لم يعد ثمة مجال للتفاوض. إن ما كان يقوله المتصلبون الإسرائيليون من أنه <<لا شريك لإسرائيل>>، وكان قابلاً للنقاش على امتداد العقدين الماضيين، بات الآن مسلّماً به وخارج النقاش. ويرى بعض المتحذلقين أن الشعب الفلسطيني بإعطائه الأكثرية ل<<حماس>>، حرّر إسرائيل وجعلها أكثر قدرة على ممارسة حقها في تقرير مصيرها بنفسها وعبر خطوات انفرادية.
هذا، ببساطة، ركام من الأضاليل.
أولاً، إن قرار الانفصال عن الفلسطينيين هو، بالضبط، ما مارسته إسرائيل قبل أسابيع في قطاع غزة. ولقد فعلت ذلك في ظل حكومة تضم اليمين واليسار معاً. ويمكن القول، ترطيباً للذاكرة، إن الانسحاب من طرف واحد كان شعار حزب <<العمل>> في المعركة الانتخابية التي خسرها إيهود باراك في مواجهة أرييل شارون، وإن الثاني عاد، لاحقاً، إلى تبني الفكرة.
ثانياً، لقد تمّ التنفيذ في وقت يصعب فيه القول إن إسرائيل <<لا تملك شريكاً>>. كان محمود عباس رئيساً، ولا يزال، وكانت <<فتح>> تملك الأكثرية. ومع ذلك فاوضت إسرائيل الولايات المتحدة لا السلطة الوطنية ولا منظمة التحرير. وعندما وجدت ضرورة ل<<حوار>> ما فإنها أقدمت عليه بواسطة مصر. لقد كان المجال مفتوحاً، من الجانب الفلسطيني، لحل متفاوض عليه يمكن إدراجه في سياق <<خريطة الطريق>> ولكن شارون رفض. كان الفلسطينيون من دون شريك.
ثالثاً، عشية الانتخابات الفلسطينية تماماً كان إيهود أولمرت، المتجه نحو فوز انتخابي في نهاية آذار، يختتم مؤتمر هرتسليا. والمؤتمر، كما هو معروف، يضم النخبة الإسرائيلية من شتى الاتجاهات ويناقش موازين القوى بمعناها الواسع بين إسرائيل ومحيطها. والانطباع الذي يخرج به أي متابع لأعمال المؤتمر هو أن الاتجاه الراجح في إسرائيل لا يدافع فقط عن تجربة غزة وإنما يعتبرها قابلة للتكرار في الضفة درءاً <<للخطر الديموغرافي>>. قد لا يكون الناخب الفلسطيني العادي شديد الاطلاع على مناقشات هرتسليا، ولكن ما فعله موقف حيال ما يستشعر به، في حياته اليومية، من اتجاهات إسرائيلية. الانفصال وجهة مقررة قبل الانتخابات الفلسطينية لا بعدها، ولا دخل لفوز <<حماس>> بها، علماً بأن هذا الفوز يمكنه أن يعززها.
رابعاً، ثمة كتابات لا تخشى التناقض. افتتاحية <<نيويورك تايمز>> أمس، مثلاً، استعادت أطروحة <<المتصلبين>> الإسرائيليين من أنه <<لا شريك فلسطينياً>>. إلا أنها لم توضح لنا ما إذا كان <<المتصلب>> الإسرائيلي يمكنه أن يكون شريكاً للفلسطينيين. ليس في الأمر أي خطأ. هذا منهج. هذه نظرية التسوية. كان ياسر عرفات يجمّل الواقع بإشاراته إلى <<سلام الأقوياء>> أو <<سلام الشجعان>>، لأن الحقيقة هي أن رعاة التسوية لم يكونوا يرون إليها إلا بصفتها عقداً بين إسرائيل القوية وخصمها الضعيف.
خامساً. ها نحن نُلدغ من الجحر نفسه للمرة الثانية. لقد كان ياسر عرفات رئيساً منتخباً ومع ذلك رُفضت التسوية معه لأنه <<شجع الفساد والإرهاب>>، كما يقال. ووُجهت في عهده ضربات قاسية إلى مرتكزات السلطة الوطنية. فلما أزيحت <<العقبة من وجه السلام>> بموت عرفات (اغتيالاً؟) حصل الانسحاب من طرف واحد، وها نحن اليوم نسمع من يردد أن هذا الانسحاب بات قدراً محتوماً لأن الفلسطينيين باختيارهم <<حماس>> أضاعوا فرصة ثمينة للتسوية!
المدعون أنهم جديرون بالاحترام يركزون جميعاً على سلاح واحد ويجدون أساليب مبتكرة للتذكير به: الجوع عاقبة الديموقراطية وعقوبتها. لن نجد مسؤولاً إسرائيلياً أو غربياً واحداً، لن نجد صحافياً واحداً، من المعترضين على النتائج إلا ويرفع سيف <<العقوبات الاقتصادية>>. صحيح أنها، في هذه الحالة، مساعدات، إلا أن التهديد بقطعها يُستخدم كسلاح عقابي، ويشترط لعدم استخدامه أن تتخلى <<حماس>> عن موقفها من إسرائيل، وعن سلاحها.
نسجل أولاً أن المساعدات كلها، الغربية طبعاً، تبرّر بأنها ضرورية لأن لإسرائيل مصلحة فيها. إن إسرائيل، اليوم، تمارس في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك غزة، احتلالاً من دون كلفة، والمساعدات الأوروبية والأميركية تسد هذه الثغرة بالضبط.
نسجل، ثانياً، أن <<حماس>> مطالَبة بالتخلي الفوري عن برنامجها ومن دون مقابل. بكلام آخر، انها مطالَبة بأن تخون البرنامج الذي يمكن الافتراض أنها حازت الثقة الشعبية بها بسببه. ويجب الاعتراف بأنه ليس من باب الديموقراطية في شيء أن تتوجه إلى طرف أحرز انتصاراً على قاعدة البرنامج <<ألف>> لتطالبه بتطبيق البرنامج <<باء>>.
نسجل، ثالثاً، أن أحدا لا يخطر في باله، مثلاً، ربط المساعدات أو العلاقات مع إسرائيل بمطالب من نوع الالتزام بإزالة الاحتلال، أو الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية، أو وقف بناء المستوطنات والجدار، أو تنفيذ أحكام محكمة العدل الدولية، أو، حتى الالتزام بوعود تعاقدية جرى التوقيع عليها (إزالة بؤر، إطلاق سجناء، تخفيف حواجز...).
لسنا في عيون نخب أميركية وأوروبية في موقع بشري مساو للموقع الإسرائيلي. هذه هي الحقيقة العارية التي تتأكد يومياً. منا من يرضى بهذه الدونية، ومنا من يعمل لتغيير هذا التفاوت عملياً، ومنا من يجد حلولاً رمزية لها. وظيفة الانتخابات أن تفصل بين هذه الإجابات.