في ظلّ تعتيم إعلامي وتضارب في الأنباء، يقوم منذ نهاية تمّوز الماضي مفتو 3 جمهوريّات قوقازية روسية، بدعوة من الرئيس الأميركيّ جورج بوش، بزيارة إلى الولايات المتّحدة. زيارة تطرح تساؤلات تبدأ بالخلاف الأميركي ــ الروسي المتوجّه على ما يبدو نحو التصعيد، لتصل إلى الملفّ الإيراني وإمكان توجيه ضربة عسكريّة إلى الجمهوريّة الإسلاميّة في العام المقبل
التقى مفتي إنغوشيا، عيسى خمخايف، ومفتي أوسيتيا الشمالية، مراد توقازاخوف، ومفتي قبارديا ـــــ بلقاريا، أنَس بشيخاتشوف، الرئيسين بوش الأب وبوش الابن في مزرعة العائلة في كراوفورد في تكساس، بعدما كانت الدعوة قد وُجّهت أيضاً إلى زعماء المسلمين الآخرين في الأقاليم القوقازية الروسية. إلّا أنّ مفتي أديغيا والشيشان والقرشاي شركس وستافروبول اعتذروا عن عدم تلبيتها.
وليس من المعلوم سبب الستار المضروب من الجانب الأميركي على الزيارة. هل هو عدم الرغبة في إغاظة موسكو مرة أخرى بهذه المبادرة غير المتوقّعة وغير العادية؟ أم أنّ موضوع مباحثات عائلة بوش مع المفتين لا تفترض الإباحة العلنية الواسعة؟ أم الفرضيّتان معاً؟
على أي حال، لا بدّ من مقاربة سؤالين جوهريين. الأول هو: «لماذا لم يكن بين المدعوين مفتي جمهورية داغستان أحمد حاجي عبد اللايف؟». والثاني هو: «عمّ يمكن أن يتحدّث المفتون الرسميون المسلمون مع أصوليّي أميركا البروتستانت؟».
الإجابة على السؤال الأوّل ليست صعبة، إذ يبدو أنّ مستشاري بوش نصحوه بعدم دعوة مفتي داغستان، كون الأخير يُعدّ أحد أكثر العلماء تجربة وثقافة في المنطقة، وهو ذو اطلاع واسع على الشؤون الجيو سياسية القوقازية. وربما لذلك لم يُدعَ لكي لا يحصل ما لا تحمد عقباه.
أمّا السؤال الثاني، وفيه السبب الرئيسي لدعوة المفتين، فالإجابة عليه تبدو أكثر صعوبة، لأن الأمر مرتبط على ما يبدو بخطط واشنطن المتعلّقة بطهران. فعلى الرغم من اضطرار الأميركيين غير مرّة إلى تأجيل «لسع» إيران، يشير المحلّلون إلى أنّ أشخاصاً نافذين في الإدارة الأميركية الحالية من جهة، ومهووسين بالدعوات الرسالية للمركز الأصولي للمحافظين الجدد في البيت الأبيض من جهة أخرى، مصرّون على توجيه ضربة إلى طهران، مسبوقة بعمل حثيث لوسائل الإعلام العالمية لأبلسة صورة النظام الإيراني.
والنشاط المحموم، الذي يقوم به الأميركيّون في الشرق الأوسط، مرتبط بخططهم المستقبلية نحو إيران في محاولة لتحييد العامل العربي ـــــ الإسلامي، بما في ذلك السوري. وفي هذا السياق يأتي عرض بوش الابن لـ«جزرة» إنشاء دولة فلسطينية في عام 2008، أي قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية، وكذلك منح السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عباس مساعدات مالية مهمة.
ويجب القول، إنّ الجمهوريّين يمكن أن يخسروا الانتخابات الرئاسيّة في خريف العام المقبل، إذا لم يحرز بوش حتى ذلك الحين انتصارات جديّة في السياسة الخارجية الأميركية. والحلّ، الواقعي أو الوهمي، لمشكلة الشرق الأوسط على خلفية الفشل الأميركي الذريع في العراق، يمكن أن يغني عن النصر المنشود للمحافظين الجدد.
أما الورقة الأخرى، فهي توجيه ضربة قاصمة إلى إيران، يتعطّش إليها الصقور الإسرائيليون، الذين يظنون أنّه بعد التحييد النهائي للجمهورية الإسلامية، ستتمكّن إسرائيل من تحييد «حزب الله» وحركة «حماس»، وبعدها ستوافق تل أبيب على المفاوضات مع سوريا وعلى إنشاء دولة فلسطينية.
وعلى أي حال، هناك سبب آخر لإعلان الحرب على طهران يسكت عنه المراقبون. إذ ليس سراً أن الولايات المتحدة تعاني من أزمة مالية خانقة، وقد كتب عن ذلك المفكّرون المعاصرون مثل ليندن لاروش، وجوزف ستيغليس، وغور فيدال، ونعوم تشومسكي، وجولييتو كيزي وأنطونيو نيغري. وذلك ما كان سبباً للحروب في التاريخ. فالامبراطوريات تتطلّب ضحايا جدداً على مذبح «حيتان» الأموال، من دون السؤال عن الثمن مهما كان غالياً. والولايات المتّحدة مضطرّة للاستعجال، كما في أكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، ما دام استخدام الكذب ممكناً، وفي هذه الحال التهديد النووي الإيراني.
ولكن ما هو دور علماء القوقاز، الذين دُعوا إلى الولايات المتحدة، في هذه الألعاب الجيوسياسيّة؟
إن مهندسي الفوضى العالمية يعدّون مسبقاً لحرب جديدة على طهران، ويهيّئون الجبهة الخلفية لها. ويحاولون على ما يبدو الاطمئنان إلى حياديّة الغالبيّة المسلمة في العالم وزعمائها الروحيين. وقبل كل شيء في المناطق المحيطة بإيران في القوقاز والشرق الأوسط.
فضربة عسكريّة لإيران ستكون إيذاناً لكثير من المسلمين، وليس فقط الشيعة، بالجهاد ضد أميركا وإسرائيل، حيث سيكون من الصعب البرهنة على أنّ الحرب ليست ضدّ الإسلام وليست ضد دولة مسلمة. والخلافات السنية ـــــ الشيعية تمثّل عقبة كأداء أمام الوحدة الإسلامية عند ضرب إيران. إذاً، فمهمة واشنطن استبعاد هذه الوحدة بالذات.
وبالطبع، فمن المستبعد أن يكون الحديث مع مفتي القوقاز قد دار بصراحة عن إيران، بل على الأرجح عن «تهديدات التطرّف الإسلامي» وضرورة مواجهته من قبل «الإسلام المعتدل». وعلى أيّ حال، فإن هذه الزيارة تجعل انتقاد المفتين القوقازيين للولايات المتّحدة بسبب سياستها مستحيلاً بعدها، لأنّ العامل النفسي هنا مهم جداً. فالقوقازي بعد عودته إلى البيت لن يسمح لنفسه بانتقاد من كان ضيفاً عليه.
ولزيارة المفتين لواشنطن بعد آخر. فبعد إيران، في حال نجاح الهجوم بالطبع، سيأتي دور روسيا، أو على الأقلّ القوقاز الروسي ومنطقة بحر قزوين، وذلك في مدّة تتراوح بين 3 و8 سنوات. فالدولار المتهاوي، يتطلّب تغطية عاجلة، وذلك ما يمكن أن يؤمّنه النفط. وليس صدفة أن الرئيس جورج بوش عيّن ممثلاً خاصاً له في منطقة القوقاز وبحر قزوين، الخبير الشهير في «الفوضى البناءة» ستيفن مان. وهو أحد أولئك «السحرة»، الذين يصنعون المستقبل بإدارته للنزاعات الحالية والتناقضات، وهي كثيرة في الفضاء السوفياتي السابق.