مرة كل ست سنوات، واستثناء كل تسع سنوات، يمتلئ المواطن اللبناني بمشاعر الاعتزاز بالنفس والفخر بموطنه الصغير الذي يتحول، من دون سابق إنذار، الى مركز السياسات الدولية والإقليمية فيصير ـ حقاً ـ «مالئ الدنيا وشاغل الناس»، لمناسبة انتخاباته الرئاسية!
... وها هو يرى نفسه، اليوم، واقفاً كتفاً إلى كتف مع عظماء العالم وأصحاب قرارات الحياة والموت:
بل إن هذا المواطن، الذي كان دائماً في موقع الضحية وما زال، يجد نفسه واقفاً وكتفه إلى كتف الملوك والرؤساء العرب المشغولين بهمّ اختيار رئيس جديد لبنيامين العرب، يتابع مشاوراتهم، ويتنصت على مكالماتهم مع اصحاب القرار في موقع القرار قبل ان يُعرّفوا فيعْرفوا ومن ثم يروجون لمن وقع عليه الاختيار فأسبغت عليه نعمة «الفخامة»، لكي يكون رئيس لبنان ذي السيادة والاستقلال والعنفوان، في مناخ من الشفافية المطلقة والديموقراطية ـ الطوائفية ـ التوافقية الفريدة في بابها.
صحيح ان هذا المواطن لا يشارك في انتخاب رئيس الجمهورية، مباشرة، لكنه ينفخ صدره وهو يتباهى على سائر البشر لأن «العالم» جميعاً يشارك في «اختيار» رئيسه،.. وربما تطلبت هذه المشاركة مناورات بالذخيرة الحية بين الطوائف والمذاهب أو بين العصبيات الموروثة، أو بين «الجديد» الذي يتقدم لاحتلال مكانته ودوره آتياً من اقتصاديات السوق ومن احضان الرأسمالية المستغلة (التي طالما تظاهر ضدها في شبابه) وبين العائلات التي كانت عريقة فصارت عتيقة ولم يرحمها الأقوياء الذين اقتحموا المسرح ولم يعاملوها على قاعدة «ارحموا عزيز قوم ذل»..
أكثر من هذا (لمن نسي): وحده لبنان، من دون دول العالم جميعاً، قد حظي بقرار من أعلى مرجعية في الكون، مجلس الأمن الدولي، تمنع على نوابه ـ ممثلي الارادة الشعبية ومجسدي الديموقراطية ـ ان يجددوا أو يمددوا ولاية رئيس الجمهورية! هل من بلد آخر في الدنيا يقف مجلس الأمن بدوله العظمى والكبرى والصغرى حارساً على شرف دستوره، يمنع عنه أي محاولة لاغتصابه، بالقهر أو بالحيلة لا فرق؟!
ثم ان بوسع هذه الدول ان تختار ـ ديموقراطياً ـ من تشاء فتجعله رئيساً، لا شرط إلا الانتماء إلى الطائفة المارونية... أما من يكون، وكيف يكون، وماذا في سجل سوابقه: هل حكم فتحكم؟ وهل ائتمن فخان الأمانة؟ هل ذهب مع الإسرائيلي إلى حد «الخيانة العظمى»؟ أم تساهل مع السوري إلى حد تمكينه من القرار؟! هل كان سبباً في تفجير الخلاف السياسي حرباً أهلية؟ هل تسبب في كارثة اقتصادية؟ هل يحمل جنسيات دول أخرى أم يكتفي بهويته اللبنانية؟ هل يعرف لبنان حقاً بمناطقه «النائية» والقريبة، أم يعرف منه مراكز السفارات (أجنبية وعربية) وفيها «ختم العلم»؟!
إن لبنان، في هذه اللحظة، هو مركز الكون: كل الرؤساء والسلاطين والملوك والأمراء والمشايخ تركوا اهتماماتهم اليومية ليقرروا صورة مستقبله... عبر اختيار رئيسه الجديد بما يحقق مطامح اللبنانيين بل وأحلامهم أيضاً!
إن لبنان هو جبهة عالمية مفتوحة يتواجه فيها، ومن أجله، المحوران المتضادان إلى حد التصادم.
إن لكل قوة في العالم رأيها في الرئيس اللبناني العتيد، بما في ذلك، بل لا سيما إسرائيل التي قاتلته قبل عام فدمرت ما استطاع طيرانها التدمير وقتلت وجرحت الآلاف وشردت ربع شعبه..
وليس مما ينتقص من كرامة هذا «اللبناني العنيد» انه الوحيد الذي لا رأي له في هذه المعركة، وبالتالي في نتائجها، واستطراداً في شخص «رئيس بلاده»، لكن ما يعوضه كرامة وافتخاراً ان هذا الرئيس سيكون «عالمياً» بكل المقاييس..
يكفيه فخراً ان العالم كله مشغول بوطنه الصغير..
أما هو فله اهتمامات بسيطة: مثل تأمين فرصة عمل، وتأمين كهرباء لبيته، وتأمين الأقساط لتعليم أبنائه في المدارس (الخاصة طبعاً)، وتأمين كلفة الطبابة والاستشفاء، وبعض النفقات الأخرى (البسيطة) التي يخجل من ان يطرحها أمام هؤلاء الكبار الذين تركوا كل ما يشغلهم واهتموا بأن يستولدوا رئيسه الجديد... الذي سيباهي به الدنيا غداً!، إذ سيكون له ـ وحده ـ رئيس عالمي! لكل دولة فيه نصيب، أما نصيبه هو ففي الجنة، والحمد لله من قبلُ ومن بعدُ!