جرى اللقاء الأول بين الدكتور بشار الأسد والمفكر العربي الفلسطيني الدكتور عزمي بشارة. بعد ذلك بشهرين انتقل الرئيس حافظ الأسد إلى جوار ربه وأصبح الدكتور بشار الأسد رئيساً للجمهورية العربية السورية، كانت تقديرات الدكتور عزمي بشارة بخصوص الرئيس الجديد أكثر دقة من تقديرات معظم المحللين، حيث تنبه بشارة إلى وجود أرضية صلبة لدى الرئيس بشار الأسد، وتوقع ألا يخفف الرئيس الشاب من موقف أبيه تجاه إسرائيل.
ويتابع الدكتور بشارة حديثه قائلاً: في بعض الصحافة العربية تجذرت المفاهيم القائلة بوجود مجموعة قديمة وأخرى جديدة في سورية: وهذا غير صحيح. فوجئت بأن ذلك مغلوط إلى حد كبير. هناك الكثير من الخيال الصحفي الخصب في تحليل ما يجري وراء الكواليس في سورية، الأمور أبسط من ذلك بكثير. لكنه يظل صحيحاً القول إن الرئيس بشار الأسد يعكف على البحث عن جيل من التكنوقراطيين، ليتولوا المسؤولية عن مجالات معينة ويقوموا بإدخال الإصلاحات فيها، وأن يكونوا حقاً مسؤولين في مكاتبهم ووزاراتهم. وألا يخشوا اتخاذ القرار، الرئيس بشار الأسد يبحث عن نوع من الناس ممن لا يخافون اتخاذ القرار.
عزمي بشارة، شخصية سياسية مثيرة للجدل، مفكر وكاتب وسياسي فلسطيني من عرب 48 مواليد 22 تموز 1956 الناصرة، اتهم بدعم المقاومة اللبنانية خلال الحرب الأخيرة على لبنان 2006، كان شيوعيا ثم تحول إلى قومي عربي، اشتُهر أيضاً بأنه أحد ابرز الأعضاء العرب في الكنيست الإسرائيلي، ترشح لمنصب رئاسة الوزراء، وهو من أبرز المنتقدين لسياسة إسرائيل التي يصفها بـ«العنصرية» ويدعو بأن تكون إسرائيل «دولة لجميع مواطنيها» في إشارة إلى وصف إسرائيل بـ«الدولة اليهودية»، كما ينتقد الفكر الصهيوني المسيطر في الدولة مشيراً إلى أن ذلك تمييز ضد العرب، وأن تعامل الدولة الإسرائيلية مع السكان العرب الفلسطينيين الأصليين يتعارض مع ادعاءات إسرائيل بأنها دولة ديمقراطية.
كيف يقرأ الدكتور عزمي بشارة تحولات المشهد السياسي في المنطقة؟ وكيف يرى الطريق للخروج من الأزمة التي تعصف بالساحة الفلسطينية؟ وماذا عن الآفاق المستقبلية للمنطقة؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت عناوين الحوار التالي لبشارة مع «الوطن»:
إلى أي مدى يبدو الرئيس بشار الأسد قوياً اليوم في نظرك؟
أعتقد أن الرئيس بشار الأسد أقوى مما يفكرون كثيراً، بشار الأسد هو أحد الأشخاص الموهوبين جداً الموجودين اليوم في العالم العربي، من ناحية المستوى الثقافي ومن ناحية صفاء التفكير أيضاً.
أدار الرئيس بشار الأسد الكثير من السياسات السورية، لكن على نار هادئة، ففي السنوات الأخيرة من حياة الرئيس حافظ الأسد لم يترك بشار الأسد والده دقيقة واحدة وتعلم منه كل ما لديه من حكمة عن الحياة. كذلك تعلم الخريطة اللبنانية بصورة ممتازة، تعلم بشار الأسد جيداً من تجربتين- التجربة الأوروبية الشرقية والتجربة المصرية، وهو يرى التجربة الشرق أوروبية على أنها انهيار اجتماعي، حيث لم تصنع التعددية الديمقراطية، وقد خبر هذه التجربة، وفي مصر توجد أشياء تعجبه، من ناحية نسب النمو، إلا أن الاستقطاب الهائل بين الغنى والفقر لا يعجبه.
شخصياً - يقول الدكتور عزمي بشارة- فإنني أرى الأمور على النحو التالي: عندما نتحدث عن الرئيس بشار الأسد، فإننا نتحدث عن رجل وصل السلطة في دولة تمر بوضع صعب، تهديدات الحرب، الوضع في لبنان، انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي أدى إلى فقدان مصدر للتسلح. لم يأت بشار الأسد على ظهر انقلاب، بل من داخل السلطة، الحديث هنا لا يدور عن مثقف قيادي بل عن رجل دولة، سياسي، من المفترض أن يدير الدولة. ماذا يجب أن أتوقع من ذلك؟ أقول إن لدى الرئيس بشار الأسد أفكاراً جديدة حول كيفية التجديد، ولديه حساسية مفرطة لألم الناس ومعاناة البشر، إنني أرى أملاً كبيراً في ذلك.
برأيك هل هناك ارتباط بين السلام والتطور الاقتصادي في سورية؟
في هذه المسألة يقدم السوريون خياراً مختلفاً عن بقية الدول العربية فهم مع ذلك براغماتيون وواقعيون. لكنهم أيضاً لا يقبلون الموقف القائل إن البراغماتية تعني قبول إملاءات الغرب. وهم يحاولون المناورة ليتمكنوا من الحفاظ على ما يصفونه بأنه الأمور المبدئية، الثابتة، في السياسة الخارجية: عدم التنازل عن ذرة تراب واحدة من أرض سورية، واعتبار حل القضية الفلسطينية جزءاً من الصراع بمجمله، والحرص على الاستقرار والتعاون في العالم العربي. سياستهم ليست غيبية، مع ذلك فإنهم يحافظون على مبادئ معينة، أعتقد أن ذلك متطور جداً لدى الرئيس بشار الأسد -أدرك وجوب الأخذ بعين الاعتبار عدداً من القضايا الدولية-، من جهة أخرى ففي نهاية المطاف يبقى المجال الأهم لديه هو العالم العربي وعليه فإنه لن يتنازل عن أي شبر من أراضي الجولان، ما إن نجلس، حتى يبدأ الكلام بالتدفق سريعاً.
هل العقبة اليوم في التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وسورية كامنة في الانسحاب الإسرائيلي لحدود الرابع من حزيران 1967؟
كلا، لا يمكن اليوم تجاهل الموضوع الفلسطيني. هذا سؤال افتراضي لأن أحداً من الحكومة الإسرائيلية، لن يجيء ليعرض على الرئيس بشار الأسد حدود الرابع من حزيران. لكن لا يمكن اليوم التفكير بحل مع سورية من دون حل المسألة الفلسطينية.
وهل قال لك الرئيس بشار الأسد ذلك؟
نعم، إنهم لا يستطيعون التوصل اليوم لاتفاق مع إسرائيل من دون المسألة الفلسطينية.
عم تحدثتم، عندما تطرقتم إلى إسرائيل؟
عندما نتحدث عن إسرائيل، فإن الرئيس مستمع أكثر منه متحدث، لا يكاد يوجد شيء لا يهمه، تهمه الأحزاب ومواقفها الحقيقية، تعنيه دلالات أي شيء في الحياة السياسية الإسرائيلية، يعنيه الاقتصاد، وتعنيه التربية. والرئيس بشار الأسد يكرر سؤالاً طرحه والده كل الوقت، على عكس ما يعتقده الإسرائيليون: «هل يريد الإسرائيليون حقاً السلام معنا؟» وذلك لا يصدق. بالنسبة للإسرائيليين الذين يسألون دائماً إذا ما كان السوريون راغبين بالسلام. قياساً إلى المحادثات مع رؤساء دول آخرين، فإن المحادثات مع الرئيس بشار الأسد خارقة، دائماً نجد زاوية معينة للتباحث فيها، إنه شخص شديد الرغبة بالمعرفة.
برأيك ما الذي قصده السيد الرئيس بشار الأسد عندما قال عن هذا العام إنه عام مصيري؟
بالنسبة لما قاله الرئيس بشار الأسد حول العام المصيري فأنا لا أستطيع أن أفسر ما قصد سيادته لكن بغض النظر عما يقصده الرئيس بشار الأسد فإن إمكانية وجود الحرب, بما في ذلك الحرب على إيران قد يكون ذلك حقيقة عاماً مصيرياً, قد تكون محتملة في ظل وجود تيار في الإدارة الأميركية يدفع باتجاه الحرب، ولكن حتى لو امتنعت الولايات المتحدة عن شن حرب ضد إيران نظراً لنتائجها الكارثية على المنطقة والعالم فهذا لا ينفي إمكانية قيام إسرائيل بش حرب ضد جيرانها. إمكانية الضربة الجوية إسرائيلية أم أميركية ضد إيران واردة جدا.
ويضيف الدكتور بشارة: إنه قد يتبادر إلى الأذهان سؤال حول أن يكون هذا العام هاماً ومصيرياً لجهة إمكانية مؤتمر السلام الدولي المزمع إقامته في الفترة المقبلة لحل القضية الفلسطينية ولكني أقول إن هذا المؤتمر لن يكون إلا عبارة عن حملة علاقات عامة لتحسين صورة الولايات المتحدة وتبرير تحركاتها وتدخلها في شؤون الدول الأخرى وبالنسبة لسورية فإنها إن دعيت وإن لم تدعَ لحضور هذا المؤتمر فأنا شخصياً أعتقد أنه يجب ألا تذهب لأنها سوف تدعى فقط لتكون غطاء لعملية علاقات عامة أميركية وخداعاً للرأي العام، وبأن هناك حلاً وفي كل الحالات لا أرى شيئاً خاصاً في التعامل مع المؤتمر الدولي للسلام سوى رفض التواطؤ لأنه في حال تم أي تواطؤ سيكون ذلك كارثة على القضية برمتها.
وما هو مصيري في هذا العام حقيقة، هو مهمة توحيد فصائل المقاومة العراقية وخلق عنوان منتصر في العراق، لأن ما هو موجود الآن في العراق هو عنوان مهزوم هو الولايات المتحدة الأميركية فهناك فراغ تاريخي واللحظة التاريخية يمكن أن تفوت بمعنى أن أميركا مندحرة في العراق ولكن مع هذا الاندحار يمكن أن يحدث تفتت العراق وقيام حرب أهلية، هنالك هزيمة أميركية ولكن لا يوجد منتصر عراقي فالمهمة هي صنع هذا المنتصر العراقي والذي هو فصائل المقاومة العراقية والقوى السياسية الأخرى من خلال خلق عنوان سياسي والبلد الوحيد القادر على فعل ذلك هو سورية وممنوع الآن التقاعس عن هذه المهمة والتي أراها مصيرية في هذه المرحلة الخطيرة. المشكلة هي تخطي الخلافات الداخلية العراقية وهي مشكلة عويصة وصعبة.
بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة كيف ستسير الأحداث على الساحة الفلسطينية وما الآفاق المستقبلية للوضع هناك؟
كما هو معروف فقد أقيمت حركة «حماس» من قبل تنظيم الإخوان المسلمين. وبدأ العمل على إقامتها في عام 1984، وقد بادر إلى ذلك شباب الإخوان الفلسطينيين ممن تأثروا من التنافس مع القوى والفصائل الوطنية في الانتخابات الطلابية وغيرها، وأصروا على إقامة حركة مقاومة للاحتلال. ومن هنا جاءت سهولة تنظيمها بعد بداية الانتفاضة الأولى مع صدور بيانها الأول في كانون الأول 1987. فمن اعتبر بيانها مفاجأة كان يجهل حجم الإعداد الذي سبقه واتساع القواعد السياسية والاجتماعية.
ومنذ ذلك الحين اتجهت الحركة بالتدريج إلى تجاوز الإخوان التقليديين انفتاحا على الحركات الأخرى، وفي مرونة الموقف الاجتماعي، وفي ديناميكيتها السياسية وفي أساليب النضال. ولذلك لا يخطئ من يعتبرها حركة تكفيرية فحسب، بل يتجنى على الواقع والحقيقة. إن من يعتبر حركة وطنية واسعة مثل «حماس» حركة تكفيرية هامشية يقوِّض إمكانية بناء المقاومة، وحتى المجتمع في فلسطين، وهو النهج نفسه الذي يجهض إمكانية بناء الديمقراطية في المجتمعات العربية.
إن من يتهم «حماس» بأنها حركة تكفيرية هو إما مغرض، أي ذو غرض آخر غير ما يقول، أو لا يدري عمّا يتكلم. ومن يرى بإمكانية إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني دون التيار الإسلامي الواسع على الساحة، وهو يشمل حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، لا يتحدث عن معرفة وتحليل يؤسس لرأي مختلف حول إعادة بناء المشروع الوطني، بل يقصد في الواقع مشروعا آخر، وهو مشروع لا يستند إلى الإجماع الوطني الفلسطيني بما فيه الاتفاق على قواعد اللعبة التي يجب أن يحترمها التيار الإسلامي، بل يعتمد على تفاهم، وربما تحالف مع إسرائيل وأميركا ضد الإجماع الوطني الفلسطيني.
ولا يهم في موقفه هذا المتفاهم مع إسرائيل إذا كانت القوة التي تحركت للإمساك بالأجهزة الأمنية في غزة حركة إسلامية أو علمانية، المهم بالنسبة له أنها ضد التسوية والمهم أنها ترفض استخدام الأجهزة الأمنية ضد المقاومة، ولا تقبل أن تكون هذه الأجهزة في خدمة تيار سياسي بعينه. هذا وحده يكفي لكي يعتبرها عدواً ويرفض الحديث معها. والحديث يدور عن تيار هو أقل من فصيل، بل لا يتجاوز أن يكون تيارا داخل فصيل يستخدم الأجهزة للسيطرة على الفصيل ذاته ثم لفرض أجندته السياسية ضد المقاومة وضد خصومه.
من هذه الناحية لا أهمية لهوية التيار الذي ربح الانتخابات ومُنِعَ من ممارسة دوره وحرم من السيطرة على الأجهزة الأمنية كأي حكومة تتشكل، بعد أن ربحت انتخابات. لا أهمية مبدئية هنا لكون «حماس» حركة دينية. ولنفرض أنها حركة مقاومة علمانية رافضة للتسوية وربحت انتخابات في مثل هذه الظروف، هل كان سوف يسمح لها بالسيطرة على الأجهزة الأمنية كحكومة منتخبة؟ ألم تكن لتتعرض إلى حصار بسبب إصرارها على المقاومة ورفض التسوية مع إسرائيل؟ وهي بدورها ما كانت لترضى بهذا الواقع. ولا علاقة لكونها أصولية أو إسلامية أو علمانية بمجرى الأمور هذا. لا ترضى حكومة علمانية أن تكون الأجهزة الأمنية ليس فقط خارج سيطرتها بل أداة في محاربتها ولفرض تيار سياسي بالقوة، وهو تيار لا يرضى بالوحدة الوطنية ولم يربح الانتخابات، ولا حتى داخل فصيله، ولنذهب هنا أبعد قليلا فنقول إن الجرائم التي ارتكبت في حالة ميدانية تصعيدية تدهورت إلى انتقام وثأرية وتدحرجت أثناء القتال لا تميز حركة دينية تكفيرية بالضرورة بل تميز الغوغائية عموماً عندما تسيطر على الشارع. ولا أريد أن أذكِّر الناس بمشاهد تاريخية لثأرية حركات علمانية ودينية على حد سواء في حروب أهلية في دول بعيدة ومجاورة.
ولذلك فإن النصوص التي تستحق التعليق والتي تناولت أحداث غزة الأخيرة من منطلق ديني «حماس» كحركة إسلامية، وتجاهلت كونها حركة مقاومة شعبية واسعة وعريضة وربحت الانتخابات وحوصرت وتم التآمر عليها، حولت رابح الانتخابات إلى انقلابي وقادة الأجهزة الأمنية إلى ضحية انقلاب. إنها في الواقع نصوص غير مسبوقة في تلفيقيتها وقلة استقامتها ورهانها على عداء القارئ للحركات الإسلامية أو الخلط بينها بشكل يخجل منه حتى المستشرقون، لا علاقة لهذه المواقف بالتقاليد الديمقراطية ولا بالإنصاف، ولا بصرامة التحليل والدقة المطلوبة من مثقفين.
ولكن أين ممارسات حركة «حماس» الأصولية أو التكفيرية في السلطة؟ وكيف يمكن لمحلل يحترم نفسه أن يتجاهل حتى التغيرات التي طرأت على الحركة وتطورها في السنوات الأخيرة؟
كل هذا لا يعفي حركة «حماس» طبعاً من التعامل بمسؤولية وطنية مع ما جرى ويجري بعد أحداث غزة، بدءاً بأول تنسيق عربي رسمي علني مع إسرائيل على هذا المستوى ضد المقاومة، وانتهاء بتفنيد فكرة الإمارة الإسلامية المغرضة التي استوردت لاستدعاء تداعيات سلبية من حركات سلفية قرسطوية على نمط طالبان للتحريض. على “حماس” أن تثبت أنها لا تفرض آراءها ونمط حياة رجالها ونسائها على الناس في غزة تحت أي مسمى كان، ولا حتى كما يجري في بعض الدول العربية «المعتدلة» التي لا تشكل مشكلة بالنسبة لمثقفين علمانيين معتدلين ممن استنفروا ضد “حماس”. وعلى «حماس» أن تمتنع عن مثل هذه الممارسات ليس لكي تعجب أحدا، بل لأن ممارسة الفرض والقسر الديني ممارسة باطلة، ولأن هذا ليس هدفها في مرحلة التحرر، ويجب ألا يكون هدفها بعد التحرر. ويجب على «حماس» أن تدير قطاع غزة بحكم صالح وشفافية ونجاعة وبتعاون مع كافة القوى السياسية والاجتماعية التي استثنيت من حكومات «فتح» و«حماس»، وكما يستحق أهل غزة الذين عانوا الأمرّين تحت الاحتلال وتحت أوسلو في ظل السلطة.
ويبقى الأمر المهم هو تجاوز تقسيم المشروع الوطني الفلسطيني إلى كيان سياسي محاصر في غزة يصارع على الخبز والوقود، وكيان آخر يقزم إلى استعادة امتيازات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية لنخبة أوسلو المتحررة من الشراكة مع «حماس» التي كلفتها حرمانا مما تعودت عليه منذ تلك الأيام. الأمر الأهم هو تجاوز إخراج القضية الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني من النقاش، وفي مقدمتها القدس والعودة وإزالة الاحتلال والمستوطنات.
ولذلك فإن امتحان «حماس» هو في قدرتها على اجتذاب القوى المجتمعية والفصائل المعارضة فعلا لهذا الانقسام، وغير القابلة لنموذج سلطة ترفض الحوار مع “حماس” في حين تحول الحوار مع إسرائيل إلى تنسيق مواقف، أي تحالف، ضد حماس. وبعد أن تكسب حماس ثقة هذه الفصائل التي خسرتها في عملية تقسيم الحصص مع “فتح” في الحكومة سوف يكون عليهم جميعاً مناقشة السلطة وشخوصها الرافضة للحوار والفرحة بالتخلص من اتفاق مكة وعبء الشراكة مع “حماس”، ليس في منافسة بين النموذج الناجح والفاشل بين غزة والضفة، بل على المشروع السياسي.
سؤال: ما مستقبل الحكومة الإسرائيلية التي يقودها أولمرت؟ وما السيناريوهات المحتملة خلال المرحلة القادمة؟
الجواب: إذا مر تقرير فينوغراد الثاني دون أن يطالب ايهود أولمرت بالاستقالة فإن أولمرت سيستمر في رئاسة الحكومة حتى نهاية المدة الدستورية، من المفارقات التي تحصل اليوم أن الناس تسخر من أولمرت عندما يقول إنه سوف يرشح نفسه للانتخابات القادمة.
الصورة اليوم في القيادة الإسرائيلية أن فاشلي الأمس هم نجوم اليوم، لا يوجد قيادات اليوم في إسرائيل لا يوجد كارزما في صفوف القيادة الإسرائيلية. لذلك فإن الشارع الإسرائيلي مضطر للعودة إلى القيادات التي فشلت في السابق، انظر عامير بيرتس مثلاً انتخب رئيساً لحزب العمل واختير لوزارة الدفاع في حكومة أولمرت، لقد فشل، ولم يحقق أي نجاح حتى شخصي، وهو الآن عضو عادي في الكنيست.
باراك عندما رشح نفسه لرئاسة حزب العمل قال إن إسرائيل بحاجة إلى قائد حرب، لذلك فاز، وهو يهيئ نفسه لمواجهة نتنياهو في الانتخابات القادمة والتنافس على رئاسة الحكومة الإسرائيلية.
حظوظ باراك ونتنياهو حتى الآن متساوية على الرغم من أن الاستطلاعات تعطي نتنياهو نسبة أكثر من باراك، باراك يحاول أن يقدم نفسه كقائد عسكري للجيش المنهك من حرب لبنان السنة الماضية وذلك ليعزز حظوظه في الانتخابات القادمة، باراك يتحدث فقط عن الجيش والحرب وإسرائيل تحتاج إلى قادة حرب، ويقول: من تريدون أن يقود إسرائيل في زمن الحرب، باراك العسكري صاحب التاريخ الحافل في هذا المجال، أم نتنياهو الذي لا يمتلك أي خبرة عسكرية؟!.
والآن الفرصة موجودة أمام الحرب وليس أمام السلام، لذلك فإن أولمرت برأيي سيبقى على رأس الحكومة الإسرائيلية حتى موعد الانتخابات القادمة، التي ستكون المنافسة فيها بين باراك ونتنياهو.
هل هناك نوع من التوافق الإسرائيلي- الأميركي لضرب إيران؟
إن حلفاء أميركا في المنطقة قلقون ومرتبكون بخصوص سياسة أميركا في العراق وإيران. وهم يتمنون في الواقع عودة السياسة التي أطلق عليها في زمن كلينتون اسم سياسة «الاحتواء المزدوج» مع فارق وجود القوة الأميركية المباشرة حالياً، وهذا شبه مستحيل في الوضع الراهن، فجأة يسمحون لأنفسهم بتمنية النفس، أي بعدم الواقعية.
جاء تشيني ليحتوي أصحاب المواقف القلقة، وليهدئ من روعهم ويطمئنهم بأنه لن تكون ضربة لإيران دون معرفتهم ودون أخذ مصالحهم الأمنية بعين الاعتبار، وأنه لن تكون صفقة مع إيران تهمشهم وعلى حسابهم، وهذه وعود مستحيلة وغير واقعية بالطبع.
بالنسبة لحلفاء أميركا فإن العلاقة الأميركية- الإيرانية حبلى بخطرين: خطر ضربة أميركية على إيران وخطر صفقة مع إيران. فكيف وصلت دول بهذا الحجم والغنى في أوج الأزمة الأميركية- الإسرائيلية في المنطقة إلى وضع تجد نفسها فيه متضررة من صفقة إيرانية أميركية، ومتضررة من حرب أميركية- إيرانية أيضاً. كيف وصلت هذه الدول إلى وضع كهذا؟ لا بد أن خطأ وقع في مكان ما على الطريق بين التخطيط والدهاء والحساب. ويبدو أن المشكلة كامنة بعدم وجود سياسة ومشروع خاص بها فهي متأثرة أكثر مما هي مؤثرة. والوضع الطبيعي للمفعول به أن يجد نفسه متضررا دائما.
في الواقع هنالك تصريحات نارية من بوش وأحمدي نجاد وحرب نفسية دائرة. ولكنها ليست نفسية فقط فأميركا تعد العدة لعدوان، ونحن لا نعرف إذا كان هذا الإعداد- هو أيضاً- جزءاً من الحرب النفسية. كما لا نعرف هل هنالك تناقض بين خطاب تشيني الناري من على ظهر حاملة الطائرات في الخليج والقادم من عصر آخر؟ كأن الحرب على العراق لم تقع ولم تفشل، وبين نشاط الخارجية الأميركية التي أجرت عدة لقاءات مع إيران في بغداد، أم إنهما يلعبان دورين منسقين: دور الشرطي الجيد والشرطي السيئ في التحقيق؟
حتى لو كان هنالك خلاف فعلي وليس مجرد توزيع أدوار بينهما فثمة إدارة ورئيس يديران المشهد، والأرجح أن هنالك تنسيقاً لابتزاز تراجع إيراني، ولا ينقص بالطبع من يدرس كيفية التصرف الأميركي لاحقا بموجب الرد الإيراني... فرضوخ إيران يفرض خطوات تختلف عن تحديها الضغط الأميركي. وفي الحالتين لا يوجد تخطيط عربي لكيفية التعامل مع صفقة أو تصعيد. فربما تكون المشاعر مع التصعيد الأميركي ضد إيران، أما المصالح فلا تحمد نتائجه، والمشاعر والمصالح ضد صفقة أميركية- إيرانية.
بلا شك فإن حرباً أميركية على إيران حالياً لن تعني إلا حرب بوش قبل ذهابه وإسرائيل في أزمتها الراهنة، لأن أغلبية الرأي العام الأميركي المختلف عن رأي المؤسسة الحاكمة هذه المرة، خلافا لإسرائيل، تعارض الحرب. وقد تبين أن هنالك من يسرب أخبارا عن الحرب من داخل المؤسسة الأمنية الأميركية لصحفيين مرموقين في تلك البلاد لكي يكشف للجمهور ما يعد ويخطط وبحيث تسنح الفرصة لبلورة وتثوير رأي عام ضدها. ففي المؤسسة الأمنية الأميركية ثمة من يعرف أن الحرب قادمة وهو يعارضها ويريد منعها هذه المرة خلافا للمرة السابقة.
بعد إخفاق بوش في كل مكان نشأ خطر أن يشن حرباً انتقامية على إيران مدفوعا بالتأكيد على أن الولايات المتحدة تصر على مواقفها في المنطقة، ولا تتراجع بل تنفذ ما تريد، ومدفوعا بموقفه، وهو نفس الموقف الإسرائيلي، من التسلح النووي الإيراني. وهو أيضاً مدفوع بالرغبة في إثبات عدم تراجعه عن منطق محور شر رغم الفشل المدوي في العراق... هذه أيضاً حرب يتم فيها ترسيخ النهج والمنطق الذي نشأ بعد 11أيلول وآثاره بحيث لا يختفي مع إخفاق العراق.
بوش يرفض قبول الهزيمة في العراق. أما المسؤولون الأكثر مسؤولية ولكي لا تفقد أميركا هيبتها تماما فيقبلون الاعتراف بالفشل في العراق ولكنهم يصرون على التمييز بين: «أميركا فشلت في العراق»، و«أميركا فشلت»، وسوف يكلف هذا التمييز ثمنا باهظا مرة أخرى.
واضح لإيران وسورية أن الفترة التي يجب تمريرها هي فترة بوش، وهذا يعني سنتين من تجنب المواجهة، هل هذا ثمن مرتفع؟ إذا تم تسجيل سابقة تراجع كلي ومبدئي لتجنب المواجهة فسوف يكون هذا بنظرهم ثمناً مرتفعاً: مثل أن تتراجع إيران عن التخصيب نهائيا، أو أن تدعو سورية لخيار السلام دون أن تحتفظ بخيار المقاومة. إلا أنه يصعب فيما بعد على الغرب عموماً قبول أي تغيير في الموقف الإيراني أو السوري لمصلحة العودة إلى مشاريعها، وتصبح تحت رحمة إستراتيجية التوسل يقابله طلب المزيد من التنازلات.
وأخيراً عندما يسأل الدكتور بشارة ماذا وجدت في دمشق في زيارتك الأخيرة، ولم تجده فيها قبل عام؟
يجيب: المزيد من الأمل.