في أعقاب العملية الاسرائيلية في سوريا (وموجة التخمينات في هذا الشأن) ينطلق عندنا مرة اخرى النهج "المؤيد لسوريا" ، الذي يقول - بالتقريب - : سوريا أسيرة بين ذراعي الدب الايراني ، وهي تتردد بين "محور الشر" و "محور الخير" ، الرئيس الاسد يرغب بسلام حقيقي مع اسرائيل بل انه مستعد لان يأتي الى القدس دون شروط ، ويجب مساعدته لانقاذ نفسه من الدب ومن عالم الشر ، علينا الحديث معه ، اعطاءه الاراضي التي يريدها ، وسيأتي الخلاص لاسرائيل وللشرق الاوسط.
هذا برأيي نهج مغلوط من أساسه ، منقطع عن فهم الشرط الاساس لسوريا ومن المفهوم الامني القومي لديها ، في اساس المفهوم السوري ، كما تبلور أساسا منذ صعود حافظ الاسد الى الحكم في العام 1970 يقبع نهج تقدم الاهداف الوطنية من خلال القوة ، او التهديد باستخدامها (مباشرة من جانب سوريا ، او من خلال "الفروع").
ان مفهوم الامن السوري بعناصره المختلفة اجتاز بالطبع الكثير من التعديلات وفقا للواقع المتغير ، واحد الامور المركزية فيه بدأ في نهاية الثمانينيات: الاتحاد السوفياتي ، العامل الدولي الذي وقف الى جانب سوريا وسلحها بالمجان تقريبا - سقط ، والولايات المتحدة اصبحت الشرطي العالمي ، اما حافظ الاسد ففهم بان على سوريا ان تجتاز فترة غير سهلة من الضعف ، ولهذا اتخذ خطوتين اساسيتين: الاولى: لعب لعبة المسيرة السياسية ، ولا سيما حيال الولايات المتحدة (أقل بكثير منها حيال اسرائيل). الثانية: حيال اسرائيل ، أخذ يشرع في مسيرة تعاظم القوى بعيدة المدى ، أساسها بناء قوة من النار الصاروخية ، ذات قدرة على البقاء ، مع رؤوس متفجرة كيماوية ، تغطي كل اراضي اسرائيل.
ولهذا الغرض فانه يوثق التعاون العسكري مع ايران (الذي بدأ قبل نحو 10 سنوات من ذلك) ، ومع كوريا الشمالية التي تزوده ، ضمن امور اخرى بصواريخ سكاد - سي لمدى 600 كم.
وعندما تسلم بشار الاسد الحكم ، في صيف 2000 ، واصل نفس المفهوم الاساسي: أحاديث عن السلام ، ولا سيما حيال الاميركيين (وبالتأكيد بعد احتلالهم العراق) ، تفعيل محافل ارهابية وبناء موقف قوة عسكري - استراتيجي حيال اسرائيل من أجل فرض "سلام سوري" عليها ، ولكن في هذا السياق يخيل أنه قال لنفسه: "كل ما فعله أبي يمكنني أن افعله بشكل اسرع وافضل" ، وقد فعل ثلاثة اشياء اساسية: اولا ، وثق بالخفاء والعلن الحلف العسكري - الاستراتيجي مع ايران ، ليس لانه اضطر لعمل ذلك ، ولان طهران فرضت نفسها عليه ، بل انطلاقا من اختيار واع ، فهو يحتاج لايران في صراعه مع اسرائيل ، يحتاج الى حليف ناجح.
ثانيا ، وثق التعاون الاستراتيجي مع كوريا الشمالية الى ابعاد لم تتضح في عهد أبيه .
ثالثا ، وثق التعاون مع حزب الله وبدأ يزوده بانواع وكميات من السلاح ، امتنع أبوه عنها. والى ذلك وقعت ثلاثة احداث أساس: بشار ، في لحظة ضعف ، أخرج الجيش السوري من لبنان ، وهكذا خان التراث الذي خلفه له ابوه ، وروسيا بوتين بدأت تعود الى مسرح الشرق الاوسط وتساعد في الجهود السورية لبناء القوة العسكرية ، وحرب لبنان الثانية ، مست جزئيا بصورة الردع الاسرائيلي في نظر القيادة السورية.
هذه هي الخلفية الاستراتيجية السورية - التاريخية والحالية - للعملية الاسرائيلية في سماء سوريا ، والمستقبل الذي ينتظرنا محمل بالطبع بعدم اليقين ، ولكن من شبه المؤكد أن مؤيدي نهج "ملزمون بالحديث مع الاسد" لن يغيروا رأيهم ، وحتى لو بلغ السيف رقابهم ، فانهم سيهمسون بان وجهة الاسد للسلام وحده وليس للقتل.