"سوريا اختارت طريق السلام"...بهذه العبارة برر مسؤول سوري مشاركة دمشق في مؤتمر أنابوليس ، لكأنه بذلك يرد على انتقادات حلفاء بلاده للمؤتمر ، والتي بلغت حد "الغمز من قناة سوريا" والقول بأن واشنطن نجحت في "تحييد" دمشق ، توطئة - ربما - لانتزاعها من "محور الشر" وإدماجها في "معسكر المعتدلين العرب".
والحقيقة أن سوريا بذهابها إلى المؤتمر ، لم تكن تسعى إلى استعادة الجولان ، الذي أدرج بالكاد ، وبطريقة ملتوية على جدول أعمال المجتمعين في أنابوليس ، بل كانت تتطلع لتفكيك أطواق العزلة العربية والدولية التي فرضت عليها طوال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية ، وهي نجحت في ذلك نسبيا ، بل ويمكن القول بأن الدبلوماسية السورية مرشحة لتحقيق نجاحات إضافية في قادم الأيام.
وحده وليد جنبلاط ، من بين حلفائه في ائتلاف 14 آذار ، أدرك حقائق التحول في سياسات دمشق وسياسات المجتمع الدولي حيالها ، فقرر الهبوط عن شجرة المعارضة العالية ، والتحدث بلغة الوفاق والتسويات والحلول الوسط ، وأقصى ما يتمناه الرجل المعروف بامتلاكه قرون استشعار عن بعد ، ناشطة وفعّالة ، هو أن يكون "التاجر" الأمريكي بشطارة التاجر الشامي في البازار المفتوح بين دمشق وواشنطن ، راجيا أن لا يذهب لبنان "فرق عملة" بين التاجرين.
ثمة تحوّل في اتجاهات الريح العربية والدولية حيال سوريا ، زيارة الملك عبدالله الثاني إلى دمشق كانت إيذانا عربيا بولوج مرحلة جديدة ، والاتصالات السورية الفرنسية على مستوى القمة ، تعد نقطة تحوّل جديدة في علاقات سوريا مع الغرب عموما ، وأوروبا على وجه الخصوص ، وستتوج جهود الانفتاح السوري على أوروبا ، أو بالأحرى الأوروبي على سوريا ، بزيارة وليد المعلم القريبة إلى باريس.
حضور سوريا مؤتمر أنابوليس برغم الرفض الإيراني وتحفظ حلفائها في حماس وحزب الله والمعارضات العربية ، وبرغم الانتقادات المبطنة التي بدأنا نسمعها من أصدقاء دمشق لسلوك سوريا ، يدفع على الاعتقاد بأن تكتيك "تحييد" سوريا قد أخذ يفعل فعله ، إن لم يكن على نطاق واسع وبصورة كاملة ، فبالتدريج وخطوة خطوة ، إذ ليس من المتوقع أن تنقل سوريا بندقيتها من كتف إلى كتف ، أو أن تتموضع في الخندق المقابل للخندق الذي استقرت فيه لسنوات ، مقابل وعود فضفاضة أو ابتسامات مرتسمة بحذر على وجوه الموفدين والزائرين.
سوريا بحاجة إلى ما هو أبعد من ذلك للخروج من "محورها" ، سوريا بحاجة للجولان وللبنان معا ، وإذا كانت عودة الجولان صعبة لأسباب إسرائيلية ، فإن من حق مسئولين لبنانيين من طراز وليد جنبلاط ، أن يخشون من مغبة أن يكون لبنان هو "فرق العملة" وجائزة الترضية التي تقدم لدمشق كما حصل في العام 1990 عشية انبثاق ائتلاف حفر الباطن والحرب على العراق وتحرير الكويت.
لكن من البديهي القول ، أن عملية كهذه ، ليست يسيرة ولن تسير من دون عوائق ، بل أنها قد لا تتقدم أطلاقا أو تنجح في تحقيق مبتغاها ، فهناك من جهة ، تيار في واشنطن غير مؤمن بسياسة احتواء سوريا أو مقتنع بإمكانية "تحييدها" ، وهناك في لبنان من جهة ثانية ، قوى وتيارات بنت منظومة كاملة سياسية وجماهيرية ، قائمة على استبعاد سوريا واستعدائها ، وفي المقابل هناك قوى بنت نفوذها واقتدارها على إيقاع نظرية "الممانعة" ومقتضياتها ، وهناك أطراف من المجتمع الدولي من جهة ثالثة ، ستكافح في سبيل منع سوريا من استعادة لبنان ، حتى وإن كان ثمن ذلك المجازفة ببقائها في معسكر "التطرف".
جديد سوريا عشية أنابوليس وغداته ، أنها باتت أكثر استعدادا لتقديم خطاب "معتدل" و"مستقل" عن حلفاء الأمس ، لكن هذا الجديد لم يصل بعد إلى مرحلة المجازفة بالقطع والقطيعة مع القديم ، إنها لحظة سورية انتقالية بامتياز ، ومن يعش ير.