عد أربعة أعوام ونصف العام على غزو العراق، أطلق الرئيس الأميركي جورج بوش مجازفة أخرى في الشرق الأوسط لا تقل خطورة، لكنها مجازفة من أجل السلام هذه المرة، السلام الذي بدأه يوم مؤتمر السابع والعشرين من نوفمبر المنصرم في "أنابوليس" بولاية ميريلاند الأميركية. وفي حال نجاح المجازفة، فإنها يمكن أن تساهم كثيراً في إعادة الاستقرار والأمل إلى منطقة طالما عانت من الاضطراب والرعب، ومن ثم قد تساعد أيضا على إنقاذ تركة بوش.
لذلك، فعلى بوش أن يدرك أن النجاح في جهود السلام في ما بعد "أنابوليس" يتطلب أكثر من الالتزام والرؤية اللذين أبداهما هو ووزيرة خارجيته كندوليزا رايس حتى اليوم. ولعل أكثر ما يتطلبه هذا النجاح هو انخراط واسع ومباشر من قبل الرئيس نفسه في عملية السلام، لإعادة إحياء الرؤية القديمة: "إسرائيل في سلام مع جميع جيرانها".
لنتخيل ذلك! لنتخيل أن إسرائيل وجيرانها العرب الخمسة لن يعودوا مضطرين للعيش في خوف متبادل. فيستطيعون زيارة الأماكن الدينية والتاريخية في بلدان بعضهم بعضا بكل حرية، والقيام بالتجارة معاً، والتحول إلى جزء من شبكة نشطة للنمو الإقليمي... سيصبح من الممكن ربط شبكات الطرق والسكك الحديدية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط كلها. ويمكن للقدس أن تصبح قطباً جاذباً للحجاج من الديانات الإبراهيمية الثلاث –من جميع أرجاء العالم- وتصبح مركزاً للتفاعل الثقافي.
لكن، وللأسف الشديد، لم تصدر عن بوش أو رايس أي مؤشرات على هذه الرؤية في "أنابوليس". فبدلاً من الحديث حول مزايا سلام عربي إسرائيلي شامل –سلام تتوصل فيه إسرائيل إلى اتفاقات سلام مع سوريا ولبنان إضافة إلى الفلسطينيين- ركز الزعماء الأميركيون على المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وهو خطأ للأسباب التالية:
1- مازال هناك شعور كبير بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب الآخرين بخيبة الأمل تجاه فشل جهود السلام التي قادتها الولايات المتحدة وبانعدام الثقة في الإدارة الأميركية الحالية التي تجاهلت عملية السلام خلال سنواتها الست الأولى. ولذلك، فعلى بوش ورايس أن يتغلبا على هذه المشاعر ويعيدا تنشيط وتشجيع أنصار السلام في المنطقة. ولهذا الغرض، لا بد من تحديد رؤية لسلام يشمل المنطقة، وإبراز مزاياه وإيجابياته في كل مناسبة، والعمل على بلوغه وفق رؤية واضحة.
2- معظم الإسرائيليين يقولون إنهم يتوقون إلى اعتراف العالم العربي وإقامة علاقات عادية معه. والواقع أن خطة السلام العربية لعام 2002 تتيح لهم ذلك، لكن فقط حين تعقد إسرائيل سلاماً مع جميع جيرانها، ومنهم سوريا ولبنان، يقوم على الانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة. والاندماج الإقليمي لا يمكن أن يتأتى سوى في هذا السياق.
3- إذا أريد للسلام الفلسطيني الإسرائيلي أن ينجح، فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس بحاجة إلى دعم أغلبية قوية من الفلسطينيين له. وإذا تم ضم سوريا إلى قطار السلام، فذلك سيساعده على كسب هذا الدعم. أما بدون ذلك فلن يناله أبداً. ثم إن مشاركة سوريا ضرورية أيضاً إذا أريد للبنان أن يكون جزءاً من السلام النهائي.
هل ذكرتُ أن كل هذا مجازفة كبرى؟ بالطبع هو كذلك! لكنه مجازفة يمكن الفوز فيها. فهناك شعور بالاحباط وانعدام الثقة يسود الآن في المنطقة، لكن هناك أيضاً رغبة قوية في حياة عادية، وإقرارا بأن على كل الأطراف أن تقدم تنازلات لبلوغ ذلك.
في الجانب الفلسطيني، قد تبدو "حماس" كتهديد للاتفاق؛ غير أن زعماءها أعلنوا في الماضي أنهم سيدعون عباس يتفاوض باسم جميع الفلسطينيين. كما أن معارضتهم لـ"أنابوليس" تمت حتى الآن عبر مسيرات سلمية حاشدة (مثلما حدث في التسعينيات) أكثر منها عبر العنف. وتلك أخبار سارة في الواقع، وينبغي البناء عليها.
صحيح أيضاً أن الأوضاع في العراق وإيران تؤثر بقوة على البلدان الواقعة على خط التماس مع إسرائيل. لكن هذا الخط هو بمثابة شارع باتجاهين؛ إذ من شأن سلام عربي إسرائيلي شامل أن يجعل من التعاطي بشكل بناء مع العراق وإيران أمراً أسهل في المستقبل.
وعلاوة على ذلك، فإن العالم خارج الشرق الأوسط يدعم بقوة سلاماً كاملاً ونهائياً بين العرب والإسرائيليين. ذلك أن لجميع القوى العالمية الكبرى اليوم رهانات كبيرة في المنطقة. فهي تحتاج إلى صنع السلام حتى تنجح. أما في حال فشلت مجازفة السلام الحالية التي أقدم عليها بوش، فإن ذلك سيؤثر كثيراً على قوة الولايات المتحدة ومكانتها عبر العالم برمته.
في "أنابوليس" وبعدها، أبدى كل من عباس وأولمرت رغبتهما في إعادة صياغة المواضيع الشائكة على نحو يشجع أنصار السلام. وعلاوة على ذلك، أبدت سوريا ودول عربية أخرى استعدادها لانخراط جاد في العملية.
لكن ماذا عن بوش؟ الواقع أنه خطا خطوة جيدة في "أنابوليس" من خلال التشديد مجدداً على ضرورة التوصل إلى سلام وحل مسائل الوضع النهائي، وليس عبر تدابير انتقالية فقط؛ ولكن عليه أن يوسع هذه الرؤية لتشمل جميع جيران إسرائيل، وليس الفلسطينيين فقط، ويبرز مصلحة الولايات المتحدة بوضوح في هذا السلام. إنه رهان كبير، والعالم يراقب ويأمل!