هذه أطول مذبحة في تاريخ البشريّة، وأكثرها وحشيّة، فمذبحة الهنود الحمر حسمت في بضعة عقود، ومذبحة الفيتناميين تكللت بالانتصار والحريّة، وهزيمة مدويّة ما زالت مفاعيلها تفتك بالمجتمع الأمريكي أمام ( عدو) فقير، متخلّف تكنولوجيّا...
مذابح وعمليات التطهير العرقي في روانده، ونيجيريا، ويوغسلافيا السابقة، وغيرها في أفريقيا وآسيا وأوربة انتهت في سنوات، وتوارت من ذاكرة العالم، وإن بقيت جراحا نازفة في البلاد التي اجتاحتها.
إلاّ فلسطين وشعبها، فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، ومناجل الموت تحصد هذا الجزء من (أمّة) العرب، ولا حلّ في الأفق لمأساته،لأنه ببساطة لم يركع عند أقدام ذابحيه لينفد بجلده، راضيا بنعمة البقاء علي قيد الحياة فيزيائياً، وبالمصير الذي قسّمته له قوي باغيّة بدأت ببريطانيا وتكللت برعاية أمريكيّة كاملة، تناصب الفلسطينيين الحقد المؤدلج النابع من ظلمات فكر أسطوري، ومصالح أكثر عقائديّة من نصوص التوراة التي تختزلها كلمة واحدة : النفط. مذبحة غزّة الراهنة، المتواصلة، في حّي الزيتون أو غيره، هي أولاً جريمة عربيّة رسميّة، فمن استقبلوا المجرم بوش بالرقص بالسيوف، والعراضات، والهدايا، وتباروا في التمسّح به، ما عادوا يرتبطون بالقدس، أو العروبة، وهم لا همّ لهم سوي التنعّم بفائض سعر النفط، وتوارث كراس من جماجم شعوب لا حقوق لها بمباركة ورعاية أمريكيّة.
لا لوم علي الصهاينة القتلة ولا علي بوش وإدارته المتصهينة، ولكن اللوم، والإدانة، وتحمّل وزر الجريمة ـ المذبحة المستمرّة لشعب فلسطين ـ يقع علي رؤوس الرسميين العرب، فهم تركوا عرب فلسطين في الحصار، ليس عندما انتخبت حماس، ولكن بعد أن رفض عرفات التفريط النهائي ـ وعندي أن أوسلو هو التفريط بعينه ـ في كامب ديفيد، والذي كان يعني الاستسلام التام والنهائي لإملاءات إدارة كلينتون، وللكيان الصهيوني ممثلاً بباراك آنذاك، الذي انضمّ إلي وزارة أولمرت وشغل منصب وزير الدفاع بعد هزيمة جيش الدفاع أمام حزب الله والمقاومة اللبنانيّة في حرب تمّوز (يوليو) علي لبنان 2006، والذي يقود الحرب علي الفلسطينيين في غزّة ، ونابلس، وجنين...
ولا صوت رسميا عربيا ارتفع ليدين تصريحات بوش المبشرّة بتصفية القضيّة الفلسطينيّة، ولحقوق العرب، والصارخة الاستهتار بمضيفيه العرب الراقصين في حضرته لتسليته والظفر بإعجابه.
سيعود بوش في شهر أيّار من هذا العام بحجة الحث علي مواصلة جهود السلام، في حين إنه سيحضر للمشاركة في احتفالات الكيان الصهيوني بمرور ستين عاما علي (الاستقلال)، أي علي احتلال الجزء الأكبر من فلسطين، وتشريد الفلسطينيين، ولن يزعل منه (رعاياه) العرب الرسميون فهو ولي النعمة، وليتدبّر الفلسطينيّون شؤونهم، فالمهم عند هؤلاء راحة البال ، والانتهاء من وجع راس فلسطين!...
نفاق القيادات الفلسطينيّة في العلاقات مع نظم الحكم العربيّة، وتزلّف قادة الفصائل للفوز بالدعم المالي والمعنوي علي حساب أطراف أخري، شجّع هذه الأطراف الرسميّة علي التنصّل من مسؤوليتها القوميّة، وحتي الدينيّة.. أين موقفها من القدس، والأقصي، ودورها في حماية (الإسلام) ؟!
لم يكن المطلوب شّن المعارك علي هذه الرسميّات، ولكن إدارة الظهر للقوي الشعبيّة، للجماهير العربيّة، والارتماء في أحضان نظم حكم مهترئة، ومباركة مواقفها، وغسيل أيديها من (دم) فلسطين القضيّة والشعب، و(أقلمة) القضيّة الفلسطينيّة، هو الذي مكنها من التمادي في التدليس علي شعوبها، وعلي الرأي العام العربي.
وأد القضيّة الفلسطينيّة للتخفف من تبعاتها، وتأثيرها الداخلي، وإطفاء شعلتها التي تؤجج الصراعات مع أعداء الأمة، وتفرّز الأطراف، وتعمّق الوعي بجوهر المعركة، وبأن فلسطين هي الكشّاف الذي يعرّي الأطراف، ومواقفها، وخياراتها، هذا هو ما عمدت إلي اقترافه الأطراف العربيّة الرسميّة المنبثقة عن قضايا الأمّة وفي القلب منها قضيّة العرب المصيريّة: فلسطين.
يضرب العدو في حي الزيتون في غزّة، وبعد ساعات يهاجم بلدة قباطية بعشرات الآليات العسكريّة وبالآباتشي مستهدفا قائد سرايا القدس مع اثنين من إخوانه، فيسقط وليد العبيدي شهيدا رافضا الاستسلام، ويقاتلهم وجها لوجه، فيطلقون عليه الكلاب لتنهش جسده، ثمّ يطلق جنود الاحتلال الرصاص علي ما تبقّي من جسده...
أي عدو نواجه، ونبتلي به؟!
ليس يكفي الحداد (تضامنا) مع أهلنا شهداء غزّة، فنحن في حالة حرب مستمرّة تشّن بمباركة بوش، وبصمت ولامبالاة رسميّة عربيّة، فالعدو يضربنا ويؤلمنا، ويهدف إلي تدمير إرادتنا، مستثمرا اللحظة المريضة التي نمّر بها منذ عام، ومع تكرّس الانقسام .
نحن لم نعد نتسبب لهذا العدو بالألم الذي يوجعه ويفجعه ويدفعه لإعادة حساباته، والسبب حالة الانقسام الفلسطينيّة التي وضع المنقسمون شعبنا وقضيتنا فيها، وهي حالة مناسبة تماما لعدونا لتنفيذ مذابحه والضرب في الجسد الفلسطيني في الضفّة والقطاع.
حالة التردّي التي نحن فيها جعلتنا فريسة لعدو قاس لئيم لم يشبع ولن يشبع من افتراس لحمنا.
الشهداء الذين نفجع برحيلهم فلسطينيّون، من أي فصيل كان هم ينتمون لشعب ووطن، رغم أن بعضهم ينتمون لفصائل، في غزّة، أو جنين، أو نابلس ، أو رام الله، لذا فالحديث عن شلاّل الدم ليس ماركة خّاصة بهذا التنظيم أو ذاك، وهو لا يجب أن يكون للمباهاة، والابتزاز، وبديلاً عن الخطاب السياسي الوطني الواضح بكثير من العقل وقليل من العواطف، الذي يدلّنا علي طريق الخروج من ( النفق) الذي في عتمته يفتك العدو بنا.
من بين رام الله وغزّة يدخل العدو، ويتفرّج (الحاكم) العربي مبررا تقاعسه بحالة الانقسام الفلسطيني!
دائما حين كنّا نرفع أصواتنا منتقدين، كان المزاودون يرفعون عقائرهم صارخين: اصمتوا ..ألا ترون شلاّل الدّم!
هذا التعبير الكمّي عن الدّم لم يعد مناسبا، أو لائقا، فالدم هو بشر، شباب، فتيات، أخوة، أمهات ، أخوات، وهو ليس (بضاعة) تخّص هذا الطرف أو ذاك...
نعم لا يكفي إعلان الحداد، ولا التعزيّة، فما يريده الشعب الفلسطيني من الطرفين المتصارعين، هو أن يتجاوزا هذه الحالة التي نحن فيها، وهي مأزق ، ومأزق قاتل يستثمره عدونا، ويُدفّعنا افدح الأثمان ...
والقلب ينوح من الألم علي شهدائنا، لا بدّ للعقل والضمير أن يكونا بتمام يقظتهما، ونبلهما، ووفائهما...
أرفع صوتي بكلماتي التي لا أملك غيرها، وأنا أري اندفاع فتياننا في شوارع الخليل بالحجارة ، بالحجارة من جديد، وهم يرشقون جيش الاحتلال وآلياته العسكريّة، منفجرين بغضب علي جرائم هذا العدو في حي الزيتون ، وجنين ، ونابلس...
ارفع صوتي بكلماتي التي لا أملك غيرها، أمام جلال الشهادة، والدم، والألم والقهر الفلسطيني...
أرفع صوتي بهذه الكلمات: من اختاروا سلام أوسلو لن يتراجعوا، ومن يراهن منتظرا مخرجا غامضا من هذا المأزق، سيضيّع الوقت والدم...
ليس سوي المقاومة، والوحدة في الميدان، في شوارع فلسطين، بمدنها وقراها، بقطاعها وضفتها...
ليس سوي تأجيج نيران الانتفاضة الثاوية تحت الرماد، فتجديد الانتفاضة سيوحدنا، ويخرجنا من نفق أوسلو نفق، الرهانات علي سلام لا خير فيه، نفق الصراع علي سلطة خسّرتنا الوقت والدم والأرض، والتفاف جماهير الأمّة حول فلسطين، وإعجاب العالم بشجاعة شعب يقاتل عاريا الوحش الصهيوني ...
دعونا من حرب التصريحات، وتبادل الاتهامات، ولننفجر جميعا ونفسد مخططات عدونا، بكل طاقاتنا...
بهذا نحتفل في الذكري الستين بمقاومتـــــنا، بعـــــروبة فلسطـــين، بجعل قدوم بوش الصغـــــير في أيّار للاحتفال (بدولة اليهود) كابوسا علي فرحته ومخططاته . بهذا نضـــربه علي قفاه وهو يغادر لا البيت الأبيض، ولكن فلسطين أرض الانتفاضات والمقاومة ، أرض الشعب الذي لا يهزم...