كما يقول المثل الشعبي علي لسان البخيل لضيفه: صحيح لا تكسر، ومكسور لا تأكل.. وكل حتي تشبع !، هذا هو حال سلطتنا الفلسطينية مع الفصائل المعارضة ولا سيما حركة حماس، وكل من شارك في المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي عقد في العاصمة السورية يوم الأربعاء 23 كانون الثاني (يناير)، فهي لا تُريد أن تحاور من ينشق عنها، ولا تريدهم أن يحاوروا بعضهم البعض حول مصير قضيّتنا التي أصبح يتكالب عليها الصغير مثل الكبير، وحول القواسم السياسية المشتركة بينهم!
ولما لم يكن من الممكن أن تقول لهم هذا المثل بحرفيّته، فقد ساقت حججاً أخري وأقاويل مختلفة تتراوح بين التشدّد والعقلانية لانتقاد المؤتمر إن لم نقل معاداته حتي قبل أن ينعقد.
ورغم إعلان الداعين لهذا المؤتمر وأبرز المشاركين فيه عن أهدافه سلفاً، وحصرها في استمرار المقاومة ضد الاحتلال والتمسّك بالثوابت الفلسطينية التي بدأت بوادر انهيارها تلوح عملياً في الممارسات اليومية، وفي مقدمتها حق العودة، وتقرير المصير، وحدود الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، ورغم تأكيدهم علي عدم التطلّع أو السّعي للحلول محل منظمة التحرير، بل العمل علي إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني بين دولتي الضفة وغزّة بالحوار الأخوي..
ورغم ذلك، فقد اعتبرته سلطتنا تصرفاً خارج نطاق الشرعية، وعملاً يستهدف شقّ الصف الفلسطيني ـ مع أنه منشقّ في الواقع ـ وذهب العديد من رموزها أو المحسوبين عليها مذاهب شتّي في الحكم عليه تراوحت بين منتهي التشنّج والعقلانية.
موقفان متناقضان
وهكذا رأينا ـ كمثل ـ كيف أن الأخ سلطان أبو العينين/ أمين سرّ حركة فتح في لبنان، الذي كان يطلع علينا في تصريحاته المتعاقبة متحمساً لإحكام الحصار علي مخيم نهر البارد، ويكيل الأوصاف الإتهامية المبالغ فيها للإرهابيين المارقين من مقاتلي فتح الاسلام، خرج علينا بنغمة مشابهة في الحماس المتشدد وهو يُعلّق علي مؤتمر دمشق ، متهماً حركة حماس والمشرفين عليه باستنساخ بديل عن منظمة التحرير، دون أن يلحظ وهو يقول هذا الكلام أمام تظاهرة بمخيّم الرشيدية كانت ترفع لافتات تندّد باسرائيل وامريكا وحصار غزة.. الخ، أن أحداً من المتظاهرين لم يرفع لافتة تدين الاستنساخ ، أو تتّهم المؤتمرين بالتآمر علي المنظمة وفلسطين.
كما رأينا في المقابل ـ وكمثل أيضاً ـ كيف عبّر عن رأيه في المؤتمر الأخ سميح خلف/عضو اقليم فتح في ليبيا ورئيس اتحاد المهندسين الفلسطينيين حين كتب محيّياً الأخ رمضان شلّح، هذا الرجل الفلسطيني الفلسطيني، والأخ أحمد جبريل، رجل الثوابت الفلسطينية بلا منازع، مع كل التقدير والاحترام للأخ خالد مشعل ، كما قال بالنص ثم تابع: .. ولكن مهلاً: لستم أنتم وحدكم المتمسّكون بالبندقية ولستم وحدكم الاقطاب الموجهة للحفاظ علي الحقوق... فإذا كانت عصابة اوسلو قد اختطفت قرار حركة التحرير الوطني الفلسطيني، ووضعت محاليل من الأسيد علي نظامها وأهدافها ومنطلقاتها وبرنامجها النضالي، فإنني أقول ان فتح في حدّ ذاتها وقعت ضحيّة للجميع القريب والبعيد، ووقف الجميع متفرجاً علي مشاهد نحرها بدء من بعض فصائل العمل الوطني، نهاية بفصائل العمل الاسلامي، بدعوي أنها انحرفت، وبدعوي اوسلو اللعينة، في حين أن أطر فتح بكاملها لم تكن تعلم بما يتمّ في الكواليس.. .
بين المؤتمرين والمعترضين
وبالعودة لموضوع المؤتمر الذي انعقد وانفضّ دون أن يضرب اسفيناً، ولا يجرح أحداً، بل التزم بالأهداف التي حدّدها لنفسه وقد ركّز عليها خالد مشعل في كلمته بالتأكيد علي أنه ليس مؤتمر معارضة وليس مؤتمراً انفصالياً، وان حماس لا تحتكر الشرعية، فهذا مؤتمر وطني فلسطيني وهي جزء أساسي من المسار الوطني الفلسطيني، ثم طالب بالحوار غير المشروط، لانه ليس من المعقول أن تتحاور السلطة مع الجميع دون شروط ثم تضع شروطاً للحوار مع اخوانها، كما طالب بوقف المفاوضات مع اسرائيل لانه ليس من المعقول أيضاً أن تستمّر المجازر ضد شعبنا الفلسطيني في ظل المفاوضات.
وفي نفس الاتجاه جاء كلام وزير الاعلام السوري محسن بلال في وصفه للمؤتمر الذي حضر أعماله بالقول أنه لم يكن لقاءً من اجل الخطب وإنما من اجل التشخيص والحضّ علي الحوار بين الفلسطينيين والعودة للوحدة الوطنية، وقد وجد فيه ـ الوزير السوري ـ فرصة لتشخيص مؤتمر أنابوليس وأوسلو، وحتي مؤتمرات القمة العربية.
يبقي التنويه الي انه اذا كانت بعض آراء المعارضين والمنتقدين لهذا المؤتمر قد انصبّت علي عقده خارج خيمة منظمة التحرير، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، الأمر الذي يؤشّر الي عدم الاعتراف بشرعيتها، أو الإنتقاص منها، مع أنها هي الوعاء الشرعي والأساس للتفاهم والحوار وبحث مشاكل البيت الفلسطيني، كما ينصبّ أيضاً علي عدم مشاركة فتح، الفصيل المؤسس في حركة التحرر الوطني الفلسطيني، مما يوحي أن غيرها يُريد أن يُنّصب نفسه هو الأساس، خصوصاً وان توقيت انعقاد المؤتمر في هذا الظرف الانقسامي الداخلي يدفع باتجاه تعميق هوّة الخلاف واستحكام الأزمة القائمة، فإن الرّد علي هذه الاعتراضات أكثر من سهل وواضح ويمكن تلخيصه أولاً بأنه لا حاجة للتأكيد علي أن من حق أي فلسطيني، سواء أكان فرداً أم تنظيماً أن يبحث شؤون بلده ومصيره والحال الذي آل إليه الآن ضمن أي صيغة أو مؤتمر، خصوصاً وانه لا يقوم بذلك مع الاعداء، بل يُجبر عليه بعد ان تعطّلت لغة الكلام وكل سبل الحوار بين شطري البيت الفلسطيني مع الأسف.
تجربة الرفض السابقة
ثم، ألم تكن جبهة الرفض المسماة جبهة الصمود والتصدّي للحلول الاستسلامية ـ وهي التي تضمّ فصائل تَمَثل بعضها في مؤتمر دمشق ـ تعقد اجتماعات ومؤتمرات كل اسبوع، قبل أكثر من ربع قرن من الآن في بيروت، وفي ظل غابة البنادق ، وتصل في هجومها علي الاستسلاميين الي حدّ التخوين؟
الجو نفسه الذي فرض وجود جبهة الرفض في تلك الأيام لمواجهة أولي بوادر الاستسلام تحت شعار السلام، يتكرر اليوم بعد التباعد في الموقف، والسير علي طريق التنازل تلو الآخر، الي حدّ شعور الفلسطينيين الآن باقتراب اليوم الذي سوف يتراجع فيه ممثلهم الشرعي والوحيد عن ثوابت طالما أعلن استحالة المساومة عليها، كقضية اللاجئين ومدينة القدس.. وغيرهما .
في ظل هذا الوضع يبدو من الطبيعي والمنطقي عدم عقد هذا المؤتمر تحت مظلة المنظمة ولا في ضوء برنامجها السياسي، ودون مشاركة الفصائل الغارقة في عسل العملية السلمية التصالحية التي سيكون سقفها السلام مقابل السلامة .. لا الارض!
ويبدو أكثر من طبيعي أن تعبّر شريحة كبيرة من شعبنا عن موقفها المعارض للتراجعات المستمرة والمهينة أمام البلدوزر الامريكي ـ الصهيوني الذي يعمل علي سحقنا بالتدريج دون أي مقاومة من الخيمة التي يُفترض ان تُظلّلنا، حتي لا نقول أكثر.
المؤتمرون في دمشق لم يكفروا، ولم يخرجوا عن الخط الوطني، ولم يضعوا أنفسهم بديلاً لغيرهم، وهذه نقاط تُسجل لهم. أما الحل الذي لا حلّ غيره فلا يتحقق إلاّ بالحوار، والوحدة، وعودة اللحمّة.
كلام شاعري وبديهي.. ربما، لكنه الحقيقة الكبري.