تحل علينا هذا الأسبوع ذكرى الوحدة بين مصر وسوريا والتي أعلن عن قيامها في 28 فبراير من عام ,1958
ويستحق هذا الحدث الكبير ، والذي سنحتفل بعيده الخمسين في العام القادم ، ما هو أكثر من مجرد إحياء روتيني لمناسبة هامة. فرغم عدم صمود هذه الوحدة لأكثر من ثلاث سنوات ، إلا أن دلالات قيامها وانهيارها بهذه السرعة تستحق وقفة طويلة ومتأنية لاستخلاص دروس قد تعين هذه الأمة على فهم حاضرها التعيس.
وفي تقديري أن الأوساط السياسية والأكاديمية والفكرية المعنية في مصر والعالم العربي مطالبة بأن تستعد منذ الآن لتنظيم مجموعة من الفعاليات التي تليق بهذه الذكرى ، آخذين في الاعتبار أن جميع الأجيال التي يقل عمرها الآن عن ستين عاما لم تعاصر حدث إعلان الوحدة بين مصر وسوريا ، وربما لم تسمع عنه على الإطلاق ، وبالتالي لا تستطيع أن تستوعب معانيه ودلالاته الحقيقية.
ولأن هذه الأجيال تعرضت ، وما تزال ، لحملات ضارية استهدفت تزييف وعيها وتشويه القيم والأهداف النبيلة التي ناضل من أجلها الآباء والأجداد ، فقد باتت في أمس الحاجة لاستعادة وعيها لإعادة الاعتبار لمعاني الاسقلال والوحدة والكرامة الوطنية والقومية والتي كادت تختفي تماما من قاموس الخطاب السياسي الرسمي.
ربما يدهش البعض حين نطالب الشباب باستعادة ذاكرته القومية وما حوته من تجارب وحدوية في وقت تبدو فيه الأنظمة العربية عاجزة حتى عن المحافظة على تماسك كيانات تبدو هي ذاتها مهددة بالتفتت والانقسام إلى وحدات أصغر ترسم حدودها على أسس دينية أو طائفية أو عرقية. غير أنه لا مجال للدهشة هنا ، فاستعادة الأمة لذاكرتها القومية باتت هي السبيل الوحيد للمحافظة على الوحدة الوطنية لشعوبها ، ولتجنب الوقوع في الهوة السحيقة التي يحاول البعض أن يدفعها إليها دفعا.
وحين نطالب نخبنا السياسية والفكرية والأكاديمية بالاستعداد لإقامة احتفالية كبرى في الذكرى الخمسين لإعلان قيام الوحدة بين مصر وسوريا ، فإننا لا نقصد تنظيم تظاهرات تلقى فيها الخطب وتردد الشعارات ، أو لتدبيج قصائد مديح تتغني بالوحدة وفضائلها أو بحتميتها وضرورتها ، بل نقصد وقفة تأمل لحقيقة ما جرى ، بحلوه ومره ، ودراسة الأسباب التي صنعت لحظات انتصار الأمة وانكساراتها ، لعلنا نتخذ منها عبرة وموعظة حسنة تنفعنا لتجاوز ما هو قائم وتجنب ما هو قادم.
ليس بمقدور أحد أن ينكر أن لمصر خصوصية وطنية باعتبارها واحدة من أقدم الدول المركزية في التاريخ. غير أن هذه الحقيقة يجب أن توضع بجانب حقيقة أخرى وهي أن مصر تعرضت منذ انهيار حضارتها الفرعونية القديمة وحتى الفتح الإسلامي ، لسلسلة لم تنقطع من الغزوات ومن الاحتلال الأجنبي تغيرت خلالها لغتها وديانتها عدة مرات إلى أن استقرت في النهاية كدولة يتحدث جميع سكانها اللغة العربية ويدين غالبيتهم بالإسلام. وربما تفسر هذه الحقيقة أسباب ارتباط مصر العميق بالخلافة الإسلامية واستمرار وفائها لها حتى انهيار الامبراطوية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى.
ولأن الحركة الوطنية المصرية المطالبة بالاستقلال نمت وترعرعت خلال فترة احتلال بريطاني باحت فيها الاكتشافات الأثرية بأسرار حضارتها القديمة المذهلة ، فقد كان من الطبيعي أن تركز على خصوصية مصر و على أهمية تعميق الشعور بانتماء وطني يربط تاريخها القديم بالحديث. ومع ذلك فقد كان من اللافت للنظر هنا أن النخبة السياسية التي قادت هذه الحركة بين ثورتي 1919 1952و كانت قادرة على أن تستوعب حقيقة ارتباط مصر عضويا ، ولأسباب جيواستراتيجية ومصلحية ، بعالمها العربي. ولا يجب أن ننسى أن هذه النخبة "الليبرالية" ، والتي عكست مصالح طبقة كبار الملاك الزراعيين والرأسمالية البازغة ، لعبت دورا حاسما في إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945 وقيادة الدول العربية لخوض حرب 1948 التي استهدفت منع قيام دولة يهودية في المنطقة.
وفي تقديري أن قيادة عبد الناصر للحركة الوطنية المصرية عقب ثورة يوليو لم ترجح كفة انتماء مصر القومي خصما من انتمائها الوطني ، كما يدعي البعض ، بل كانت امتدادا طبيعيا للمرحلة التي سبقتها. الفرق بين المرحلتين كان فرقا في الدرجة وليس في النوع ويعود أساسا إلى تمتع مصر باستقلال كامل منحها قدرا أكبر من حرية الحركة لم يكن متاحا لها من قبل.
ولادراك دلالة تجربة الوحدة المصرية السورية في سياقها التاريخي ، أود أن أطرح على شبابنا الذين لم تتح لهم معايشة تلك التجربة أو دراستها مجموعة من الأفكار أتمنى أن تحظى باهتمامهم وأن تكون موضع تأمل ومناقشة من جانبهم في تلك المرحلة الحساسة التي تمر بها مصر والعالم العربي ، وذلك على النحو التالي:
1 - اندلعت ثورة 1952 لأسباب مصرية بحتة ولتحقيق أهداف تمحورت حول الاستقلال الوطني والتنمية والعدالة الاجتماعية ، ومن أجلها خاضت معارك الإصلاح الزراعي وبناء السد العالي والتصنيع وغيرها.
2 - استحال على مصر أن تنأى بنفسها بعيدا عن التفاعلات العربية في ظل الضغط الأمريكي لربط المنطقة بسلسلة أحلاف عسكرية تطوق الاتحاد السوفييتي ، ولإبرام معاهدة سلام مع إسرائيل قبل جلاء القوات البريطانية من قاعدة السويس.
وفي سياق هذه التفاعلات دخلت مصر معارك عديدة ضد حلف بغداد وقررت المشاركة في مؤتمر باندونج وإبرام صفقة سلاح مع الاتحاد السوفييتي والاعتراف بالصين. وقد أدت هذه المعارك إلى قيام الولايات المتحدة بسحب عرضها السابق بتمويل بناء السد العالي ، ورد جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس ، لينتهي الأمر بمعركة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والتي قادها عبد الناصر باقتدار وحقق فيها انتصارا سياسيا غير مسار الأحداث في المنطقة.
3 - اكتشف عبدالناصر في ثنايا هذه التفاعلات قيمة وأهمية العمق العربي في تعزيز مكانة مصر الإقليمية والدولية ، واكتشفت الشعوب العربية في عبدالناصر زعامة كاريزمية قادرة على قيادتها وتوحيدها في مواجهة الأطماع الاستعمارية والصهيونية. ومن المؤكد أن سعي النخبة السورية للوحدة مع مصر كان أكبر بكثير من سعي عبدالناصر للوحدة مع سوريا.
4 - اشترط عبدالناصر لاتمام الوحدة إلغاء الأحزاب في سوريا ، وهو شرط عكس الطبيعة الشمولية والاستبدادية لنظامه السياسي والتي تسببت ليس فقط في إجهاض الوحدة ولكن في هزيمة 1967 أيضا. وتعلم عبدالناصر من تجربة الانفصال أن وحدة الهدف أهم من وحدة الصف ، والتي يجب في جميع الأحوال أن تكون متدرجة وأن تأخذ في اعتبارها الفروق القائمة بين المجتمعات العربية ، لكنه ظل حتى رحيله عميق الإيمان بأهمية البعد العربي في سياسة مصر الخارجية.
5 - عندما وصل السادات إلى السلطة تصور أن بمقدور مصر أن تحقق أهدافها في التحرر والتنمية بشكل أفضل إن هي تخلصت من عبء الارتباط بالعالم العربي. وانطلاقا من هذه الرؤية ، والتي لم تتغير جذريا في عهد مبارك ، أقدم السادات على إحداث تغييرات شاملة في سياسة مصر الخارجية عقب حرب أكتوبر 73 أفضت في النهاية إلى التحالف مع الولايات المتحدة وإبرام معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل. ولم يعد بوسع أحد أن يجادل في أن هذه السياسة أضعفت مصر والعالم العربي معا وأدت إلى تأكل دور مصر ووزنها ليس فقط على المستوى الإقليمي ولكن على المستوى العالمي أيضا.
في ضوء هذه الحقائق تبدو الحاجة ماسة ، في تقديري ، لصياغة سياسة خارجية مصرية جديدة تنطلق من إيمان كامل باستحالة وجود أي تناقض دائم بين مصالح مصر الوطنية ومصالحها القومية ، وبأن ما يحقق مصالح مصر الوطنية الحقيقية لا يمكن إلا أن يضيف إلى مصالح أمتها العربية ولا يخصم منها.
وما يقال عن مصر يمكن أن يقال عن بقية الدول العربية. ومن الصعب إدراك هذه الحقيقة إلا إذا كنا قادرين على التمييز بين المصالح الوطنية ومصالح النخبة الحاكمة. فمصالح النخبة الحاكمة قد تكون انعكاسا لمصالح فرد أو أسرة أو قبيلة أو فئة اجتماعية. أما المصالح الوطنية فلا تعكسها إلا حكومات منتخبة انتخابا حرا وديمقراطيا.