لابساً مسوح الرهبان، متقمصا شخصية بابا نويل، حاملا الهدايا الكلامية المغرية، اختتم الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الاسبوع الماضي، جولته الافريقية الثانية التي زار خلالها خمس دول افريقية.
في كل دولة زارها كان بوش يؤكد في خطبه العامة، انه جاء لمساعدة الافريقيين في مكافحة الفقر والايدز، محاولا إكساب زياراته وجها انسانيا حانيا، ربما يزيح عن بلاده تهمة الاستغلال والهيمنة والغزو والاحتلال، التي ذاعت وانتشرت، خصوصا بعد احتلال أفغانستان والعراق.
لكن الوجه الانساني لم يخف الوجه القبيح للاستعمار الجديد، اذ ان بوش لم يذهب الى افريقيا قبل شهور من انتهاء ولايته الرئاسية، ليساعد وينصح ويعاون فقراء افريقيا، ولكنه ذهب بحثا عن حماية مصالح بلاده الاستراتيجية، وعملا على نسج شبكة علاقات وتحالفات تربط الدول الافريقية، التي تعاني التخلف والفقر والمرض، فضلا عن الصراعات القبلية والعسكرية التي تهددها، بل تمزق دولا مثل كينيا وتشاد والسودان والصومال والكونغو ورواندا... الخ
ولا بد هنا من لفت النظر الى أن الرئيس الأميركي قد استبق جولته الافريقية بزيارات للسعودية وبعض دول الخليج العربية، ونظن ان الهدف كان واحدا في الجولتين: تأكيد أمن النفط العربي والافريقي من ناحية، وتجنيد الحلفاء معه لمحاربة الارهاب، أي باختصار نفط وأمن... أي مصالح حيوية للامبراطورية الاميركية التي تملك أضخم اقتصاد وأكبر قوة عسكرية في العالم، وهذا هو بالضبط منهج الدول الاستعمارية الأوروبية الكبرى، التي سبق أن احتلت الدول العربية والافريقية، واستنزفت ثرواتها على مدى قرنين على الأقل!
فإذا ما أزحنا القناع المزيف عن «الوجه الانساني»، نقول ان الأهداف والمصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية هي محرك الاستراتيجيات وراسم خريطة التحركات والزيارات والعلاقات، فأميركا مثلها مثل أوروبا لا تحب العرب مثلا، لكنها تستميت في تدعيم علاقاتها بدولهم، خصوصا المحورية مثل مصر، والنفطية مثل دول مجلس التعاون الخليجي، فضلا عن سيطرتها على العراق صاحب أكبر مخزون نفطي في العالم.
وحين ذهب بوش الى الخليج، كان قد زار اسرائيل أولا، ليؤكد لها وللعالم وللعرب خصوصا، ان التحالف الاستراتيجي الأميركي الاسرائيلي هو الأهم ويأتي في المرتبة الأولى، وان ضمان أمن اسرائيل مسؤولية أميركية في الأساس، أما حكاية دعمه لقيام دولة فلسطينية الى جوار اسرائيل، فقد ثبت أنها خدعة، لذر الرماد في العيون وتطييب الخواطر العربية، تماما مثل خدعة الوجه الانساني لزيارته أفريقيا.
باختصار، ذهب بوش الى الخليج ليضمن النفط والأمن في منطقة تهتز بالمخاوف والهواجس من تداعيات الحرب الاميركية في العراق من ناحية، ومن تصاعد القدرات العسكرية «وربما النووية» للجارة الكبرى ايران من ناحية اخرى، وبالمثل ذهب بوش الى افريقيا ليضمن النفط والموارد الطبيعية الغنية، خصوصا اليورانيوم وكذلك الأمن في قارة ملتهبة بالصراعات القبلية والعرقية والعسكرية.
÷÷÷
إذاً فما يسمى الوجه الإنساني لزيارة بوش لأفريقيا، لم يكن إلا غطاء لأهداف استراتيجية أميركية واضحة نحددها في الآتي:
1 ـ فرض الهيمنة الأميركية على القارة السوداء، بعد أن تنازعت النفوذ مع فرنسا، تحت ستار تدعيم الأمن والاستقرار ونشر الديموقراطية، رغم تحالفها، كما في المنطقة العربية مع نظم استبدادية حاكمة.
2 ـ السيطرة على مخزون النفط القائم والقادم، بعد أن أكدت الدراسات الغربية ان أميركا ستستورد 25 في المئة من استهلاكها النفطي من افريقيا بحلول العام .2015
3 ـ مكافحة ما يسمى الارهاب، بعد أن ادعت السياسة الأميركية انتشار الشبكات الارهابية الاسلامية، من دول شمال أفريقيا، خصوصا الجزائر والمغرب، الى دول افريقيا الجنوبية.
4 ـ مواجهة الزحف الصيني الواسع على دول القارة الافريقية، خلال السنوات الأخيرة، بحثا عن واردات النفط، وغزو الاسواق الكبيرة، تحت رايات الصداقة والمساعدات الصينية غير المشروطة سياسيا أو عسكريا، كما تفعل المساعدات الأميركية.
5 ـ عزل الشمال الافريقي العربي من مصر شرقا الى المغرب وموريتانيا غربا، عن دول ما يسمى جنوب الصحراء، تحت دعاوى كثيرة، منها ما هو عنصري وطائفي، ومنها ما هو سياسي وأمني.
والحقيقة ان أميركا تطبق هذه الاهداف الاستراتيجية في افريقيا على مدى السنوات العشر الأخيرة، دون صخب كذلك الذي صاحب تحركها في الشرق الأوسط ووسط آسيا، خصوصا بعد غزوها لأفغانستان عام ,2001 ثم غزوها واحتلالها العراق عام ,2003 ونستشهد في ذلك بالنماذج المحدودة التالية، ونبدأ بالتدخل الأميركي الواضح في الأزمة السودانية، الذي لعب دورا بارزا في حرب جنوب السودان، كما لعب دورا مؤثرا في دفع الخرطوم والحركة الشعبية لتوقيع اتفاق «نفاشا» للسلام، الذي يمهد في رأينا لانفصال الجنوب بعد نحو ثلاث سنوات من الآن.
وها هو التدخل الأميركي الواضح مصحوبا بالمساندة الأوروبية، يلعب دوره التالي، في مشكلة دارفور بغرب السودان الملتهبة الآن، واذا كان للمشكلة جذورها ودوافعها المحلية، فإن التدخل الأميركي والأوروبي له دوافع أخرى، تتعلق بثروة دارفور من المعادن، خصوصا اليوارنيوم، ومن النفط بمخزونه الهائل، وهكذا يصبح للتدخل الأميركي قوة تأثير و«سيطرة» على مخزون النفط في جنوب السودان وفي غربه، حتى يحرم الصين من استثماراتها النفطية الكبيرة في السودان.
أما النموذج الثاني لهذا التدخل الأميركي المباشر، فهو الذي حدث ويحدث في الصومال، اذ بعد أن فشل الغزو الأميركي للصومال باسم «حملة استعادة الأمل»، في عهد الرئيس الأميركي بوش الأب، وما تبع ذلك من صخب سياسي هائل، جاء التدخل الأميركي الجديد في الصومال، في عهد الرئيس بوش الابن، أكثر حنكة وبطرق غير مباشرة، وذلك بدفعه لأثيوبيا لغزو الصومال نيابة عنه، ومحاربة «المحاكم الإسلامية» المتهمة بارتباطها بتنظيم القاعدة، والنتيجة ان الصومال أصبح ممزقا في صراعات قبلية وعسكرية، وصار محتلا بقوات أثيوبية تحارب بأسلحة أميركية!
ومن خلال هذين النموذجين للتدخل الأميركي في السودان والصومال، ناهيك عن تشاد وغيرها من الدول، يتضح ان الامبراطورية الاميركية في عهد بوش، تطبق مفاهيم ومطامع واستراتيجيات الامبراطوريات الاوروبية الاستعمارية نفسها المنسحبة الى التواري، بحثا عن المصالح الاقتصادية واستنزافا للثروات الطبيعية الهائلة وفي مقدمتها النفط بالطبع، وكما كانت الامبراطوريات القديمة تفعل ذلك بالغزو والاحتلال وبناء القواعد العسكرية والأساطيل البحرية العملاقة بمقاييس القرون الماضية، ها هي أميركا تستعيد ذلك كله، ولكن بأساليب حديثة تناسب العصر الراهن وتناسب قدراتها الجبارة.
[[[
ببراءة الأطفال في عينيه، قال الرئيس بوش في خطابه خلال زيارته الأخيرة لغانا، «إنني أعرف أن هناك شائعات تتردد في اكرا وفي غيرها من العواصم الافريقية، إنني أسعى لبناء قواعد عسكرية هنا. وهذا غير صحيح لأنني جئت في زيارة دعم ومساعدة فقط»...
ما قاله الرئيس هو غير الصحيح، أما الصحيح فهو ان أميركا تجهد نفسها على مدى العامين الأخيرين، بحثا عن دولة افريقية لاستضافة قيادة «افريكوم» التي تمثل إحدى ست قيادات عسكرية إقليمية أميركية في العالم... وقد بدأ التفكير في إنشاء هذه الافريكوم قبل عشر سنوات اثر تفجير السفارتين الأميركيتين بكينيا وتنزانيا عام ,1998 والهدف هو محاربة الارهاب، وإحكام قبضتها العسكرية على القارة السوداء بقدرات عسكرية متنامية.
وقد صار معروفا، ان واشنطن عرضت اولا على مصر إقامة مقر قيادة افريكوم على أراضيها، لكن مصر رفضت، وكذلك فعلت المغرب والجزائر، الأمر الذي شجع دولا افريقية رئيسية على اتخاذ الموقف نفسه، ولم يعد مرحبا بهذه القاعدة المركزية سوى ليبيريا!!
غير ان أميركا لن تعدم وسيلة لنشر قواعدها وتدعيم وجودها العسكري في القارة، وسواء نقلت قيادة افريكوم من مقرها الحالي بألمانيا، أو لم تنقله، فإنها تمضي قدما في تدعيم قدراتها العسكرية من حول مناطق النفط ومخزوناته، امتدادا من الخليج العربي عبورا الى شرق افريقيا، من خلال قاعدتها في جيبوتي، اختراقا للقارة حتى غربها المطل على المحيط الاطلسي الواصل الى أميركا...
الدراسات الحديثة تقول ان خطوط أنابيب النفط العملاقة والجديدة، ستتفادى مناطق التوتر بالشرق الأوسط، فتمتد قريبا من حقول نفط الخليج العربي ثم تتجه عبر البحر غربا، لتتجمع في خطوط اخرى تخترق افريقيا وتضم النفط الافريقي، حتى تصل في مأمن وفي حراسة عسكرية أميركية، الى الاسواق الاميركية والاوروبية سالمة غانمة.
هكذا يتبدى الوجه الحقيقي للاستراتيجية الاميركية، أما التبرعات الانسانية والمساعدات المالية، فهي وهم يخفي خداعا يحمي مصالح!
÷÷ خير الكلام: قال الشاعر:
فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري