في تزامن لافت، تستضيف باريس (الكيان الصهيوني)، ضيف شرف، في معرض الكتاب، وتستقبل شمعون بيريس بحفاوة مبالغ بها، ويحتفي بالمستشارة الألمانيّة (ميركل)، في الكيان الصهيوني، وتمنح شرف مخاطبة الكنيست، كأوّل مستشار ألماني، وهذا تكريم يمنحها امتيازا علي مستشارين كان لهم فضل السبق في إقرار مبدأ التعويضات عن ضحايا ما يسمّي بالمحرقة .
باريس تستقبل بيريس، وهي تعرف من هو، ولا يغيب عن بال رئيسها ساركوزي ما قدّمته فرنسا بصفقة أبرمت معه، سرّا، وتمّ بموجبها تزويد الكيان الصهيوني بمفاعل نووي، عرف فيما بعد باسم مفاعل ديمونة، وقد أنتج حتي يومنا ، بتقدير خبراء دوليين، حوالي أربع مائة رأس نووي، كفيلة بتدمير كل مدن (الشرق الأوسط)، الذي دعا بيريس لجعله شرق أوسط جديداً، والذي بالقنابل والرؤوس النووية التي أنتجها المفاعل الفرنسي، يمكن أن يتحوّل هباءً ، مع أهله، وحضاراته.
في مذكراته كتب مهندس العلاقات الألمانيّة الصهيونيّة، وصفقة التعويضات، ناحوم غولدمان، أن التعويضات الألمانيّة الماليّة الضخمة هي التي أنقذت الدولة الفتيّة المتعثّرة في بداياتها، وأوقفتها علي قدميها، وأنقذتها من الانهيار التّام!
لم تتوقّف صفقة التعويضات الألمانيّة عند ضّخ مئات ملايين (الماركات)، بل تعدّتها لتزويد الدولة الوليدة بمئات الدبابات، وصنوف الأسلحة، من مدافع، ورشاشات ثقيلة، وأسلحة فرديّة، وأدوات تعذيب خبرتها أجساد الفلسطينيين، وخبرات تعذيب متوارثة من الحقبة النازيّة ـ والغاية تبرر الوسيلة، ما دامت الغاية اقتلاع أظافر، وأسنان الفلسطينيين، وتمزيق جلودهم ـ ناهيك عن التأييد الديبلوماسي، والسياسي، تكفيرا عن ما فعله هتلر ونظامه النازي باليهود. (لم يتّم تعويض أي شعب من الشعوب التي أبيد الملايين من أبنائها)!.
في باريس يتحدّث بيريس عن السلام، بينما منجزه، ومفخرة حياته هو دوره في مفاعل ديمونة...
لا بدّ أن نتذكّر حرب 56، ودور الكيان الصهيوني في العدوان علي مصر الناصريّة، والذي كان ثمنه مفاعل ديمونة، ومعه خبرات فرنسيّة استمرّت حتي العام 60، أي حتي أتقن العلماء الصهاينة معرفة انتاج قنابل نوويةّ!
فرنسا زوّدت الكيان الصهيوني ببوليصة تأمين مدي الحياة، هي في ذات الوقت تهديد دائم بالموت الداهم للعرب ..مدي الحياة، ما لم يمتلكوا ما يحميهم، ويردع عدوّهم!
في الذكري الستين وفدت ميركل لتهنئة الصهاينة بدولتهم، ولتجديد العهد بالدعم الألماني، وهي تعرف أن أرض المطار الذي كرجت علي أديمه طائرتها، كانت بيوتا وحقولاً فلسطينيّة، حين لم يكن هناك شيء اسمه (إسرائيل)، وأن طرد مئات ألوف الفلسطينيين، واحتلال مدنهم وقراهم، قد تمّ بعملية تطهيرعرقي، ما كانت لتتم لولا الدور البريطاني، وتواطؤ الدول الاستعماريّة المنتصرة في الحرب العالميّة الثانيّة علي دول (المحور)، ومن بعد بمشاركة ألمانيا الاتحاديّة.
زيارة ميركل في الذكري الستين لنكبة شعب فلسطين، انحياز للظلم، والعدوان، واستهانة فظّة ووقحة، بآلام شعب فلسطين، وهي إذ تعلن بأنها مع دولتين تعرف أنها كاذبة، فجملتها هذه الاستهلاكيّة لا تعدو أن تكون سخرية من العقول، وضحكا علي ذقون عرب ـ وفلسطينيين تحديدا ـ يتلقّفون أي كلمة عابرة في تصريح، أو خطاب، أو لقاء صحافي، لمسؤول غربي، موحين بأنه انتصار ديبلوماسي للقضيّة، وأن أوربا تختلف في مواقفها عن انحياز أمريكا، الخ هذه الاسطوانة المملّة!
الكيان الصهيوني ولد نتيجة للحرب العالميّة الثانيّة، التي تسببت في التعتيم علي ثورة عرب فلسطين الكبري بين 1936 و 1939، وقمع بريطانيا الوحشي لثورة عرب فلسطين، ومخادعة حكّام العرب، كالعادة، بوعد كاذب بإنصاف عرب فلسطين عند انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء، وهو ما دفع الحكّام العرب لمناشدة (أخوتهم) عرب فلسطين بإلقاء السلاح.
الطرفان المتحاربان، معا، دشّنا ظهور الكيان الصهيوني، فلولا تلك الحرب، ولولا التعويضات الألمانيّة، ولولا الهجرة إلي فلسطين، ولولا تسريب ألوف (اليهود) الذين أتقنوا خبرات القتال في جيوش الحلفاء، لما انتصرت الصهيونيّة في فلسطين.
في هذه الأيّام، وفلسطين تئّن موجعة مكلومةً، مذبوحة من الوريد للوريد...
في هذه الأيّام التي تستعيد ذاكرة الفلسطينيين الجمعيّة وقائع نكبة 48، وأسماء وأفعال دول الغرب الاستعماري، التي كان لها الدور الرئيس في الكارثة، ابشع كارثة إنسانيّة في القرن العشرين!
في هذه الأيّام، في الذكري الستين للنكبة، ينبغي أن نستيقظ نحن العرب الفلسطينيين، ونرفض الخداع، ونطرح الأسئلة علي أنفسنا، ونعيد تحديد من هو العدو ومن هو الصديق، ونثبّت التهم الدامغة، في عقول أجيالنا، علي كل من أسهم بنكبتنا.
لماذا علينا أن نجامل ألمانيا بعد كل ما ضخّته للكيان الصهيوني؟
لماذا علينا أن نسكت علي دور فرنسا في تمكين الكيان الصهيوني من أن ينتج مئات الرؤوس النووية، عن عمد وسابق إصرار، ومنذ العام 1960، دون اعتذار، او إفصاح عن هذا المفاعل، وقدراته؟!
ماذا سنكسب من تحكيم أمريكا بوش، وغير بوش، بالتوسّط بيننا وبين عدونا؟ وهل بعد كل مصائبنا من أمريكا نقبل بدور أمريكي وساطي؟!
لماذا لا نرفع صوتنا مطالبين بريطانيا بتحمّل مسؤوليتها عن نكبة فلسطين عام 48؟!
لماذا لا نسلّح أجيالنا بمعرفة أعدائها، وكّل المجرمين المشاركين في جريمة العصر؟!
لماذا لا يكون الوعي أساس معركتنا، فلا نداهن، ولا نجامل، ولا نحابي علي قضيتنا، وتضحيات شعبنا؟!
ماذا ننتظر من ساركوزي الذي صرّح بأنّ (إسرائيل) هي أهّم إنجاز في القرن العشرين، وميركل التي تريد دولة لليهود، وأمريكا التي جعلت من الكيان الصهيوني حاملة طائرات لها في قلب الشرق (العربي)؟!
وأنا أتأمّل أدوار دول الغرب هذه، وعلاقاتها مع الكيان الصهيوني، يخيّل لي أنني أري سباق تتابع، هدفه الانتقال من الأسطورة إلي أبعد من تفاصيلها، كما وردت في التوراة ...
الفلسطيني يقاتل بالحجر، و(داوود) مسلّح برؤوس نووية، ورعاته الغربيّون يضخّون في شرايينه كّل المنعشات، والمقوّيات، وهو يركض بلا توقّف، وحيث يصل قدماه القافزان، يصيح منتصرا : هذه أرضي، لنسلي ستبقي أبدا...
داوود الصغير كبر، وهو مخلوق تمّ تجميعه، وتزويده بكّل ما يكفل أن ينتصر علي العرب، ويحتّل أرضهم، فهو مبارك بالرعاية : الإنكليزيّة، الفرنسيّة، الألمانيّة و..الأمريكيّة!
سباق تتابع، وكل دولة استعمارية، تقوم بدورها، وتقدّم حصّتها من الرعاية والدعم والعناية، لتسلّم، أو تتسلّم المهمة منها دولة أخري. و..لا تحسبوا أن دولة ً تنسحب من حلبة الدعم، لا، بل دورها يصغر أمام دولة أكثر عطاءً، وبحسب ثقل دورها علي المستوي الدولي ...
كان القائد جمال عبد الناصر مشغولاً بمستقبل الجزائر، والذي برؤيته الاستراتيجيّة سيضيف للعرب في المشرق، وقد ردّت فرنسا الاستعماريّة التي كانت تحرق وتدمّر في الجزائر، فالتحالف في وجه حريّة العرب، هو ما جمع فرنسا والصهيونيّة وبريطانيا...
الآن عبد الناصر غائب، ومصر غائبة، والعرب الرسميون حاضرون بدورهم السلبي، بحصارهم للفلسطينيين، والتفرّج علي معاناتهم، وبالتخلّي عنهم، حتي تندثر قضية فلسطين، ليرتاحوا من هذا الهمّ وما يتسبب به من تأجيج لمشاعر عرب مقموعين، غرباء في أوطانهم ...
أكثر من ستين عاما عمر انحياز الغرب الاستعماري للصهيونيّة، والتآمر علي فلسطين، والعرب، ومع ذلك فهناك من يتصدّرون المشهد السياسي الفلسطيني بخّاصة ، والعربي بعامّة، ويتحدّثون بانتهازيّة، وابتذال، وانطلاقا من مصالحهم الشخصيّة التافهة، عن دور أوربي رسمي مختلف عن الدور الأمريكي.. يا للنفاق!