أود أن أتوقف عند بعض التطورات التي حدثت في العالم العربي أخيرا لربطها بالتوجهات السياسية الرئيسية في المنطقة، وأول هذه التطورات المبادرة اليمنية التي أعلنت عنها اليمن لجسر هوة الخلاف بين السلطة الفلسطينية وحركة فتح، والتي تمخضت عن اتفاق أطلق عليه إعلان صنعاء لم يجف الحبر الذي كتب به قبل أن تعلن الأطراف الموقعة عليه أنه تم بدون مرجعيات تعطيه قيمته الحقيقية.
والمسألة عندي لا تتعلق بالاتفاق بل باعتقاد البعض أن نوع الخلاف القائم بين فتح وحماس هو من نوع الخلاف الذي يمكن أن يتوصل فيه طرفان إلي منطقة وسطي مع استبعاد كل العناصر الخارجية التي تؤثر عليه.
والسؤال هو هل هذه المسألة قضية تهم فتح وحماس وحدهما وتحسم باتفاقهما مع بعضهما بعضا أم أن الأمر له بعد آخر، الإجابة بكل تأكيد هي الطرح الثاني، لان إسرائيل والمجتمع الدولي من ورائها لهم مواقفهم من حركة حماس وهي لا تنتظر اللحظة التي تتوحد فيها كلمة حماس مع كلمة فتح، كما أن توحد الكلمتين سيوجد مزيدا من التعقيدات علي الأرض ولن يكون سببا مباشرا في حل مشكلات الشعب الفلسطيني سواء كان ذلك في غزة أو في أي موقع آ خر من ارض فلسطين، وهنا يتبادر إلي الذهن سؤال جوهري وهو هل كانت كل تلك الحقائق غائبة عن الوعي اليمني؟ والإجابة بكل تأكيد لا، وذلك ما يثير شكوكا حول أهداف مثل هذه المبادرات والأيادي الخفية التي تحركها خاصة قبل موعد انعقاد القمم العربية.
وما دام الأمر يتعلق بالقمة فلابد أن نتوقف عند الخلافات التي تدور حولها، وأول هذه الخلافات تتمثل في موقف الحكومة اللبنانية التي ترفض أن تشارك في قمة تعقد في دمشق وهي التي تتهمها بيروت بأنها وقفت في سبيل انتخاب رئيس جديد للبنان، وما دامت لبنان لا تملك رئيسا فما المبرر إذن لأن تشارك ـ أصلا ـ في هذه القمة؟ وكان من الممكن أن يقبل هذا المنطق لو أن الأمور وقفت عند هذا الحد، ولكن الإرهاصات تقول إن المملكة العربية السعودية التي لن تقاطع القمة سوف تمثل بمندوبها في الجامعة العربية، مع أنها هي التي ستسلم رئاسة القمة إلي سورية، وهذا بكل تأكيد وضع لن يجد قبولا عند سورية، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل ثمة أقوال كثيرة تشكك في حضور الرئيس مبارك للقمة، وإذا حدث ذلك فتبقي المسألة كلها في إطار إستراتيجية دولية لا علاقة لها بالمصالح العربية، لان كلتا السعودية ومصر تنسقان بشكل واضح مع السياسات الأمريكية في المنطقة ولا تخرجان عليها، وكنا قد رأينا الرئيس جورج بوش يزور المنطقة قبل القمة وتبعه في ذلك نائبه ديك تشيني الذي أعلن مواقف تثير الاستفزاز سواء كان الموقف يتعلق بإسرائيل أم بإيران.
وفي الوقت الذي تتعقد فيه المشاكل بشأن القمة يطير الرئيس المصري حسني مبارك إلي موسكو من أجل أن يبدأ تعاونا نوويا مع روسيا، ولا يوقع الرئيس مبارك اتفاقية بشأن هذا التعاون بل يكون اتفاقه فقط من اجل تشارك روسيا في المناقصات التي تتعلق بإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء في مصر، ولا شك أن تحرك الرئيس مبارك في هذا الوقت بالذات لعقد اتفاقات نووية مع روسيا يثير تساؤلات كثيرة، ذلك أن الولايات المتحدة ومن خلفها العالم الغربي بأسره يقفون ضد البرنامجين النوويين لكل من كوريا وإيران، فهل يعقل في مثل هذه الأجواء أن تسمح الولايات المتحدة لمصر بأن تنشيء برنامجا نوويا يهدد أمن إسرائيل، أم أن المسألة كلها حركة إعلامية الغرض منها أن تظهر الولايات المتحدة مصر وكأنها تمتلك قرارها حتي إذا تأخرت عن حضور القمة أو اتخذت مواقف خارجة عن الإجماع العربي تفسر علي أنها تمت بإرادة مصرية كاملة .
ولا شك أن الموقف العربي كله ـ من هذه الزاوية ـ يدعو إلي الأسف، ذلك أن الدول العربية في معظمها لم تعد تمتلك إرادتها، وليس ذلك لأسباب ضعف حقيقي في بنية الواقع العربي بل لأسباب تتعلق بمصالح ضيقة لا تفكر فيها الحكومات العربية بطريقة منطقية، فهي مستمرة في اتخاذ المواقف التي تؤثر علي مصالح شعوبها لا لشيء سوي الحفاظ علي نظم الحكم دون إدراك لأن التصالح مع الشعوب لن يهدد أمن النظم السياسية في أي صورة من الصور. ولكن تلك حقيقة غائبة عن الحكام العرب الذين يرهنون مصالح بلادهم المادية كما يرهنون مستقبل أمنهم من أجل المحافظة علي أوضاع لا يمكن الحفاظ عليها في ظروف غير عادية، بكون العالم يتعلم الدروس كل يوم، ومن أكبر الدروس التي تعلمها العالم العربي هي انه لم يعد يقتنع بأن الولايات المتحدة قادرة علي أن تفعل ما تشاء في المنطقة دون حسيب أو رقيب، ذلك أن الفشل الذريعة في حرب العراق وما نتج عنها قدم دليلا أكيدا للشعوب العربية أن آلة الحرب مهما عظمت وتضخمت لن تكون قادرة علي فرض واقع علي الأمة العربية غير مقبول لديها وقد تأكد ذلك من خلال حرب اسرئيل الأخيرة في لبنان وهي الحرب التي ألحقت بإسرائيل هزيمة مرة وجعلتها تشعر بقلق حقيقي وهي تري تقدم البرنامج النووي الإيراني، ذلك أن إسرائيل تراهن في الوقت الحاضر علي قدراتها النووية التي تعتقد أنها ستكون الرادع الحقيقي لأي تحرك يتفوق عليها عسكريا، وذلك وهم لم تحاول إسرائيل أن تتصالح معه، فهي لا تدرك أن وجودها مهدد، ليس بالواقع العسكري للدول المحيطة بها بل بسياساتها غير المنطقية والرافضة للتصالح، ذلك أن أمنها لن تحميه الأسلحة النووية أو غيرها إذا كانت هناك إرادة شعبية كبري للتحرك تجاهها ولو سيرا علي الإقدام، أو إذا تم تعمير سيناء وكانت فيها كثافة سكانية عربية كبيرة، أما بالنسبة للدول العربية فلا يعدو الأمر أن تنشأ أزمة يصعب معها تحمل الأوضاع في صورتها الراهنة، وهي أزمة واقعة لا محالة لأن الدول العربية متخلفة في برامجها التنموية بل هي لا تمتلك برامج تنموية أصلا وتعيش في مجتمعات استهلاكية تعتمد علي رزق اليوم باليوم، ومن المؤسف أن مصر وهي أكبر بلد عربي لم تخطط لمستقبلها بأسلوب صحيح بحيث تزايد فيها عدد السكان بشكل رهيب دون أن تكون هناك زيادة مضطردة لمواجهة هذا الموقف، وأخيرا بدأت مصر في التفكير في الاتجاه جنوبا نحو السودان بتصدير آلاف المزارعين الذين يحرثون الأرض هناك، وقد أعلن بالفعل عن قبول السودان مبدأ إرسال عشرين ألف مزارع مصري لحرث أراضيه، ولا شك أن التعاون بين مصر والسودان أمر مقبول وكان يجب أن يتم منذ وقت طويل وخاصة في السنوات التي أعقبت الاستقلال، ولكن الوقت قد تأخر كثيرا ذلك أن السودان يواجه أزمات إثنية وعرقية تنذر بتقسيم وشيك أو حروب قد لا تجعل استيراد المصريين أمرا مناسبا في هذه المرحلة.
ومؤدي قولنا أن تغير الوضع الديموغرافي في كثير من البلاد العربية وضعف الإمكانات المادية سوف يقود بالضرورة إلي احتجاجات شعبية واسعة النطاق قد تغير صورة الحكم في كثير من هذه البلاد.
وهنا يجب أن تكون مناسبات عقد القمم العربية فرصة لإعادة التفكير في حقيقة الوضع في العالم العربي لا أن تكون هذه مجرد أختام توقع ما يطلبه الغير من القيادات العربية، ولعل أي محاولة لتفادي الحقيقة العربية من خلال القمع الحكومي أو تجاهل إرادة الشعوب العربية لن يكون مجديا في عالم يتغير كل يوم وتظهر فيه حقائق تؤثر علي بناء الوعي، ولعل اكبر تطور حدث أخيرا هو إدراك العالم أن القوة وحدها لا تستطيع تحقيق الأهداف، وذلك فحوي الفشل الأمريكي في العراق.