لست عدوا لحركة "حماس"، بل أنا متهم من قبل أنصار حركة "فتح"، التي انتميت لها مطلع شبابي، وأتمتع حتى الآن بعلاقات مميزة مع الكثير من قادتها، بما هو أكثر من تأيد حركة المقاومة الإسلامية رغم أنني لست اسلاميا، وأظن أنني لا أصلح لأن أكون.
مناسبة ما سبق هو الحوار الذي نشرته صحيفة "الأيام" الفلسطينية مع خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في الثاني من الشهر الجاري.
للتذكير يرأس تحرير "الأيام" أكرم هنية، أحد مستشاري محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، وأحد مستشاري الوفد الفلسطيني المفاوض أيام مدريد، وصاحب القنوات المفتوحة دائما مع الإسرائيليين.
و"الأيام" ذاتها صدرت منذ بداياتها الأولى بتمويل دفع في إطار ما وصف بأنه سعي اميركي لتشجيع بناء مؤسسات الكيان الفلسطيني المقبل.
ما علينا..
المهم، بل الأهم هو ما يقوله خالد مشعل في حواره مع "الأيام".
ابتداء أود لفت النظر إلى أن مقالي هذا تأخرت كتابته اثني عشر يوما بعد نشر حوار مشعل، وذلك لسببين:
الأول: شك مفترض في صدقية الصحيفة، يأخذ في اعتباره امكانية التحريف من قبل أناس لطالما فاخروا بأنهم يقرأون الممحي، فإذا بهم ينتقلون مرة واحدة إلى محاولة محو المكتوب..
الثاني: انتظار نفي أو توضيح من قبل مشعل، أو أي ناطق من ناطقي "حماس".
ولما لم يصدر شيئ من هذا القبيل، ولما كان السكوت في معرض الحاجة إلى بيان موافقة وقبول، فقد أصبح ضروريا عدم الإمعان في تجاهل أمور بالغة الأهمية وردت في هذا الحوار الهام، ثبت شرعا وقانونا أنها لم تتعرض لتحريف.
يبدأ مشعل الحوار الذي أداره الزميل عبد الرؤوف الأرنؤوط بذكاء مشهود، الحديث في عمق مستقبل "العلاقات" ـ والكلمة هنا لكاتب هذا المقال وليست لمشعل ـ مع اسرائيل انطلاقا من شرح فهمه لمسألة التهدئة، وذلك بعد أن يؤكد "هناك علاقات تتنامى مع الأوروبيين بعضها بالسر وبعضها بالعلن"، قائلا "للتهدئة مفهومان، هناك مفهوم تهدئة أو هدنة كما ذكرته "حماس" يمكن بحثه أو التفاوض عليه حينما تنضج الظروف لانسحاب اسرائيل الى حدود الرابع من حزيران 1967، والإعتراف بالحقوق الفلسطينية في القدس وفي السيادة على الأرض وحق العودة ..هذه حالة مختلفة وفيها ممكن أن نتحدث عن سنوات، أما التهدئة الحالية فهي نوع من ادارة الصراع وفقاً للظروف الميدانية ولمتطلبات المرحلة، وهذه قد تكون شهوراً قليلة أو كثيرة تعتمد على طبيعة ما يمكن الإتفاق عليه في كل مرحلة، وهو ما نتحدث عنه اليوم ولكنه يصطدم بالتعنت الاسرائيلي".
هذه العبارة ليست إعادة انتاج أو إعادة صياغة لمقترح الشيخ أحمد ياسين التاريخي، الذي كان يتحدث عن هدنة طويلة الأمد، قد تمتد حتى عشرين سنة مقابل انسحاب اسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، مشترطا لإتمام الهدنة التي كان يراها عدم اعتراف "حماس" بإسرائيل..ذلك أن مشعل يضيف عبارات متناثرة أخرى في هذا الحوار من طراز:
· "السلام الذي يعيد الحقوق لسنا ضده، وبالتالي لا يقلقنا السلام، نحن يقلقنا أن نخدع بالسلام، أما السلام الحقيقي الذي يأتي بالحقوق والأوطان والأرض المحتلة، ويخلصنا من الإحتلال ومن الظلم والعدوان ويعيد الحقوق لأصحابها فلا يقلقنا".
· "اسرائيل تعرف ما هو مطلوب منها وتعرف ان عليها ان تنهي احتلالها غير المشروع وأن تعترف بالحقوق الفلسطينية. هذا هو المطلوب منها ولسنا من الشغوفين ولا المتلهفين ولا عندنا عقدة نقص تجاه التعامل مع الاسرائيلي او غير الاسرائيلي في العالم، معيارنا هو تحقيق مصالح وحقوق شعبنا".
· ولدى اشارة سؤال إلى أن "التأييد في الشارع الاسرائيلي للاتصال مع "حماس" يزداد"، يؤيد مشعل ذلك مضيفا "نقول هؤلاء (الذين يؤيدون الإتصال مع حماس) مدخلهم الضغط على قيادتهم كي توقف العدوان وتنهي احتلالها وتعترف بالحقوق الفلسطينية، خاصة في ظل التوافق الفلسطيني والعربي على دولة فلسطينية على حدود 1967".
· ولدى سؤاله عما إذا كان هذا الموقف تكتيك أم هو موقف استراتيجي، يجيب "عندنا وثيقة التوافق الفلسطيني لعام 2006 وقد اتفقت معظم الفصائل في هذه الوثيقة على موقف واضح وهو دولة على حدود 1967 بما فيها القدس وحق العودة وسيادة كاملة على كامل 1967 ..هذا موقف فلسطيني وهو موقف عربي مع اختلاف في بعض الهوامش، ولكن هذا الموقف وعلى الاسرائيليين ان يعلنوا التزامهم الكامل والدقيق به".
· ويؤكد مشعل ثانية "نحن متوافقون على برنامج وطني، برنامج سياسي، والسؤال هو هل هناك ارادة دولية يمكن أن تحول هذا البرنامج إلى أمر واقع على الأرض وهي تعرف أن العقبة الوحيدة امامه هي العقبة الإسرائيلية وليست عربية أو فلسطينية ..البحث عن القصص الأخرى هو نوع من الهروب من هذا الإستحقاق".
الأهم من كل ما سبق هو أن مشعل ظهر معنيا في اجاباته على الأسئلة الذكية لمحاوره، بالتأكيد على أن هذا الموقف ليس موقفا شخصيا، بل هو موقف "حماس" الذي اتخذته مؤسساتها القيادية.
يقول مشعل في معرض اجابته على سؤال عما يقوله الإعلام الإسرائيلي من أنه لم يعد مسيطرا على "حماس"، وإنما أحمد الجعبري "باختصار "حماس" مؤسسة لها رأس ولها قيادة ولها مؤسسة قيادية وهي تدير القرار بطريقتها الخاصة، فالقرار ليس مرتهناً لشخص وإنما هناك مؤسسة قيادية، وأنا أقف على رأس هذه المؤسسة القيادية، وعلى الآخرين أن يفهموا الحقيقة".
لا اعتراض لنا على حرف واحد مما قاله مشعل في هذا الحوار بالغ الأهمية..ذلك أننا نؤيد تسوية سياسية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي تفرضها طبيعة المعادلة المعقدة وطنيا، وعربيا، واقليميا ودوليا، واختلال موازينها.. التي تحكم مجريات وعملية إدارة الصراع.
وبتفصيل أكثر، نحن يتركز خلافنا مع سلطة محمود عباس فيما يلي:
أولا: استعداده لتقديم تنازلات مجانية لإسرائيل، ووضعه ثقته في واشنطن، وهي ثقة في غير محلها. وحصر خياراته في المفاوضات، وهو ما أدى إلى خفض سقف التسوية التي يمكن أن يتم التوصل إليها، في حين أن "حماس" يمكن من خلال المزاوجة بين المقاومة المسلحة والتفاوض أن تحقق سقفا أعلى للحل المرحلي.
ثانيا: فساد سلطة اوسلو.
ثالثا: امتناع عباس عن التسليم بنتائج الإنتخابات التشريعية، ورفضنا لنظام الحزب الواحد، الذي يدير ظهره للتعددية ولإرادة الشعب في التغيير.
رابعا: وامتدادا لكل ما سبق، فإننا نرفض مصادرة حرية الرأي والتعبير.
هنا، في (رابعا) على وجه التحديد، يكمن خلافنا كذلك مع "حماس"..!
"حماس"، أو بعض اطرافها أثبت أنه يرفض حرية الرأي والتعبير، ولا يتقبل الرأي الآخر..!!
بالطبع هذه سمة عامة عند حركات التحرر الوطني، لا تختص بها "حماس". ولئن رفض أحد في "حماس" حقنا في التعبير والتحليل والإستقراء واستشفاف آفاق المستقبل، وقاطعنا بسبب مقال استقرائي لموقف الحركة الذي عبر عنه مشعل في هذا الحوار، فقد سبق أن تعرضنا للخطف والتعذيب بالكهرباء وغير الكهرباء في سجون "فتح" في لبنان حين كنا نعتقد بالرأي الآخر في حينه الذي كان يرفض الحلول السلمية والمرحلية للصراع.
كهرباء "فتح" لم تكن هي ما اقنعنا بجدوى الحلول السياسية والمرحلية للصراع، كما أن مقاطعة "حماس"، أو أطراف في "حماس"، لم تحولنا إلى مخاصمتها، ولا حتى إلى أجواء الخصومة في التعامل معها.
ولكنها فرصة للدفاع عن حق المفكرين والكتاب والسياسيين في التعبير عن آرائهم بلا خصومة..خاصة وأن ممارسة هذا الحق تصب في خدمة تعميم الحقيقة، التي هي وحدها الضمانة لاتخاذ مواقف صحيحة حيال مختلف الأمور والقضايا.
المواقف الصحيحة تبنى دائما على قاعدة من المعلومات الصحيحة.
بالطبع يحدث ذلك في حالة امتلاك قدر كبير من الموضوعية، والحيادية في الطرح والفهم والتحليل.
لذا، وفي ضوء ذلك، فإنه ليس مبررا بحال اتخاذ مواقف عدائية اتجاه من يتنبأ بالموقف قبل اعلانه رسميا..! خاصة حين يكون الفاصل الزمني بين التنبؤ بالموقف، وبين الإعلان عنه لا يزيد عن عدد الأيام الفاصلة بين تاريخ مقالنا المعنون "بحصات كبيرة تبق على عتبات مؤتمر دمشق"، والمؤرخ في 25/10/2007، وتاريخ نشر حوار مشعل في "الأيام" في 2/4/2008.. فقط 159 يوما بالتمام والكمال لا تمثل شيئا في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
ما أزعج بعض أطراف "حماس" في ذلك المقال استقراءه "أن مؤتمر دمشق (المؤتمر الوطني الفلسطيني) هو خطوة هامة على طريق انخراط "حماس" في العملية السياسية المتعلقة بالحل السياسي للقضية الفلسطينية..!". وقوله "الحكم والمقاومة لا يجتمعان..تلك مقولة لا يجادل فيها عاقل، ولذا، فإن "حماس" بدأت تغازل اميركا واسرائيل منذ لحظة فوزها في الإنتخابات التشريعية، بل منذ ما قبل ذلك. ونستطيع أن نرصد من مفردات هذا الغزل شواخص لافتة تتمثل في اتصالات سرية جرت بين "حماس" وجهات اوروبية، وتأكيدات خالد مشعل أكثر من مرة أن "حماس" تعترف بإسرائيل كأمر واقع، وأن وزراء حكومة اسماعيل هنية جاهزون للتعامل مع نظرائهم الإسرائيليين. واميركا واسرائيل بدورهما بدتا معنيتان مؤخرا بتحديد علني لشروطهما للتفاوض مع "حماس"، بالتزامن مع الإكثار من وصف عباس بالضعف، وعدم القدرة على التفاوض، وتحقيق خطوات إلى الأمام على طريق التسوية..".
وذكرنا في ذلك المقال أيضا بأنه "يوم جرت محاولة اغتيال مشعل في عمان 27 ايلول/سبتمبر 1997، كشف الملك الراحل حسين في خطاب علني القاه في مدينة الزرقاء أن محاولة الإغتيال وقعت بعد يومين من ارساله رسالة إلى بنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرائيل في حينه يبلغه فيها موافقة "حماس" على الإنخراط في العملية السياسية. وحتى اللحظة لم يصدر عن "حماس" رسميا ما ينفي تلك المعلومة..!".
وقلنا أيضا في ذلك المقال "نود لفت النظر هنا إلى مسألة غاية في الأهمية: لم تشن "فتح" وسلطتها حربا مفتوحة على "حماس" طالما ظلت ترفض التسوية السياسية، لكن هذه الحرب شنت عليها فور أن لاحت بوادر رغبة "حماس" في الإنخراط بالعملية السياسية..ذلك أن انخراط "حماس" في العملية السياسية يلغي مبررات حصر التفاوض مع "فتح" وسلطتها منفردين، ويشكل خطرا داهما عليها وعلى مصالحها الإستراتيجية والتنظيمية..!!".
واستخلصنا من كل ذلك "إن الصراع الآن ليس على الإلتزام من عدمه بنتائج الإنتخابات التشريعية الفلسطينية، ولا على ما يمكن أن يقدمه عباس من تنازلات جديدة في أنا بولس (لقاء الخريف)..بل إنه أصبح صراع على من يمثل الشعب الفلسطيني في مفاوضات الحل النهائي".
قلنا في ذلك المقال أيضا "الخلاف هو على من يجب أن يمثل فلسطين في المفاوضات المقبلة والنهائية"..و "إنه سباق على التفاوض، بهدف تكريس سلطة الطرف المفاوض، مع قناعتنا بأن سقف التنازلات التي يمكن أن تقدمها "حماس" أقل من سقف التنازلات التي يمكن أن يقدمها عباس".
والغريب أن الذين اغضبهم استقراءنا أن الصراع البيني الفلسطيني بات "على من يمثل الشعب الفلسطيني في مفاوضات الحل النهائي"، اسعدهم استقراء آخر مبني ومؤسس على الإستقراء السابق، يرى أن المؤتمر الوطني الفلسطيني، وغيره من التطورات المتزامنة كان يدفع باتجاه ازدواجية التمثيل الفلسطيني، وعدم حصره في القيادة الحالية لمنظمة التحرير..!
نحن إذا نغلب المصلحة الوطنية والقومية على ما سواها..
نتمسك بموقف مؤيد لـ "حماس" لجهة حقها بالحكم ما دام الشعب انتخبها لذلك، ونؤيد ضرورة أن يكون أي اتفاق يسوي الصراع مع اسرائيل موضع توافق الجميع الفلسطيني، ثقة بأن سقف "حماس" التفاوضي هو الأعلى.
ومن حقنا في المقابل أن نتمسك بحقنا في حرية التفكير والتعبير وإبداء الرأي، واستقراء ما هو قادم من مواقف وتطورات، بما في ذلك اللقاء المنتظر بين مشعل والرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، والذي نقدر أن يكون خطوة هامة على طريق الإعتراف الأميركي بـ "حماس"، وانخراطها اللاحق في المفاوضات.
وبعد كل شيئ، وقبل كل شيئ، من حقنا أن نتمسك بالتعددية الفكرية والتنظيمية والسياسية والمعتقدية في الساحة الفلسطينية، لأنها وحدها من يمثل الكل الفلسطيني.