سواء التحقت رايس بـ "مواكب الزائرين الأوربيين" إلى دمشق ـ كما تصفهم الإدارة الأمريكية ـ أم لم تلتحق، وسواء أعادت واشنطن سفيرها إلى دمشق أم لم تعده، فذلك ـ وعلى الرغم من أهمية حصوله ولو رمزياً ـ لا يمكن له أن يخفي حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية وفيما بقي لولاية الرئيس بوش، تعيد النظر في مجموعة من الحسابات وتُخضع نفسها داخل أروقة البيت الأبيض لمراجعة "هادئة" لسياساتها في الشرق الأوسط عموماً، ولسياستها تجاه دمشق خصوصاً.
اليوم، تدرك الإدارة الأمريكية ـ ولا تخفي إدراكها هذا ـ أن سياسة "فرض العقوبات والعزل والضغط" على دمشق على مدى السنوات السابقة لم تجدِ نفعاً، ولم تكن سياسة صائبة أو مفيدة، وهي التي أضفت على الحضور الأمريكي في الشرق الأوسط مزيداً من الإرباك والفوضى والتردد، بالتوازي مع سياسة وتعاطٍ مماثلين لجهة الفشل والإرباك والغرق في ملفات المنطقة بشكل عام. ما أدى إلى حصول "الفراغ" في المنطقة، هذا الفراغ الذي تستثمر فيه أوروبا "مؤقتاً"، وتسجل من خلاله عودة إلى الساحة الشرق أوسطية عن طريق أكثر من بوابة إحداها وأهمها دمشق.
بطبيعة الحال، فإن الولايات المتحدة لا تخشى خسارة دورها في الشرق الأوسط بشكل مطلق، وعلى وجه التحديد دورها كراعٍ رئيسي لعملية السلام التي يصر أطرافها على أهمية تواجدها، لكنها في الوقت عينه، وهي المراقبة لما يحدث، تخشى من تعاظم الدور الأوروبي، وتخشى من أن يزيد حجم الاستثمار السياسي الأوروبي عما تتوقعه بالتزامن مع دور روسي محتمل أيضاً، في وقت تجد فيه الإدارة الأمريكية نفسها مضطرة إلى البقاء منكفئة نحو الداخل الأمريكي الغارق في عملية الانتخابات الرئاسية، يضاف إليه الأزمة المالية الحالية التي شغلت وتشغل الأمريكيين على مختلف مستوياتهم، وتلقي بظلالها على مساحات واسعة من العالم.
يمكن وصف المراجعة السياسية الأمريكية التي سبقتها أجواء من التهدئة على مدى شهور مضت، بأنها عملية "فلترة وتنقية" للسياسة الأمريكية، في محاولة لوضع أسس جديدة للسياسة الخارجية من شأنها أن تهيئ أجواء مريحة وغير مربكة، قدر المستطاع، للإدارة المقبلة التي لاشك في أنها ستنوء تحت وطأة تركة وحمل ثقيلين، بعزل عن كونها جمهورية أم ديمقراطية.
فيما يخص العلاقة مع دمشق، فإن العلامة الفارقة التي تشي بحصول هذا التغيير الأمريكي، كانت في اللقاء الأخير لوزير الخارجية السوري وليد المعلم مع نظيرته الأمريكية كوندوليزا رايس حيث وصف الوزير المعلم محادثاته مع الوزيرة رايس بـ "الإيجابية" واعتبر أنها تصلح لأن تكون "مدخلاً إلى حوار"، ولا يمكن هنا إغفال المناقشات والمحادثات المطولة التي أجراها الوزير المعلم عقب لقائه رايس مع مساعدها ديفيد وولش. وفوق هذا كله دعوات الدبلوماسي النرويجي تيري رود لارسن خلال الدورة الـ 63 للجمعية العامة للأمم المتحدة إلى ضرورة "دعم سوريا اقتصادياً والانفتاح عليها سياسياً وتشجيع مفاوضاتها مع إسرائيل بكل الوسائل والتراجع عن فكرة العزل.."!!.
الدلالات والإشارات على إعادة وضع أسس جديدة للسياسة الأمريكية للفترة المقبلة باتت تطفو على السطح السياسي الدولي وهي أكثر من أن تعد وتحصى، ولعل التصريحات الأخيرة للارسن ـ الأمريكي السياسة والهوى ـ تكفي وحدها لتأكيدها.. أما الصورة النهائية لتلك الأسس فلاشك أنها ستتضح في الأشهر القليلة المقبلة بعد الفراغ من إعادة النظر والمراجعة الأمريكية التقييمية "الهادئة" لسياساتها، وبعد الانتهاء من عملية "الفلترة والتنقية" التي تسبق ولادة الإدارة الأمريكية الجديدة، التي سيسجل لها أنها أبصرت النور إثر مخاض سياسي أمريكي مربك وشاق وطويل!.