كما في رواية أورويل، 1984، يعيد الأخ الأكبر السياسي-الإعلامي كتابة التاريخ باستمرار، ومحو صفحات كتلك المتعلقة بالحربين على العراق، صفحات ضرورية لفهم الأحداث الحالية. إن من المهم –إذن- اعادة بنائها في مسمياتها الجوهرية.
حرب الأولى لما بعد الحرب الباردة
عراق صدام حسين، الذي وفر للولايات المتحدة -بغزوه الكويت يوم 2 أوت 1990- إمكانية تطبيق استراتيجية ما بعد الحرب الباردة، هو نفسه العراق الذي دعمته الولايات المتحدة حتى قبيل وقت قصير آنفا. فمنذ عام 1980، ساعدته في الحرب ضد إيران الخميني، "العدو رقم واحد" آنذاك. وقد وفرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) للقيادة العراقية أيضا صور الأقمار الصناعية عن الانتشار الإيراني. وبموجب تعليمات من واشنطن، منح الكويت بغداد قروضا كبيرة.
ولكن بمجرد انتهاء الحرب عام 1988، خشيت واشنطن أن يلعب العراق، بفضل المساعدة السوفياتية، دورا مهيمنا في المنطقة. موقف الكويت تغير تبعا لذلك: لقد طالبت بغداد بالتسديد الفوري للديون وزادت من استخراج النفط من حقل الرميلة الذي يمتد على الإقليمين، متسببة بذلك في ضرر للعراق، الخارج لتوه من 8 سنوات من الحرب مع ديون خارجية بأكثر من 70 مليار دولار. فكر صدام حسين في الخروج من طريقه المسدود بـ"إعادة إلحاق" الاقليم الكويتي، الذي يقفل منفذ العراق إلى الخليج، بموجب الحدود التي رسمها قنصل الاقليم البريطاني السير بيرسي كوكس عام 1922.
الولايات المتحدة، التي كانت تعرف المخطط بالتفصيل، جعلت بغداد تعتقد انها ستبقى بمنأى عن النزاع. في 25 جويلية عام 1990، وبينما أظهرت الأقمار الصناعية العسكرية أن الغزو وشيك، أكدت السفيرة الامريكية في بغداد، ’آبريل غلاسبي’ لصدام حسين أنْ ليس للولايات المتحدة رأي حول نزاعه مع الكويت وانها تريد علاقات أفضل مع العراق. وبعد أسبوع، في 1 اوت، أمر صدام حسين بالغزو، مرتكبا خطأ جسيما في الحسابات السياسية. الولايات المتحدة جعلت من الحليف السابق عدوا أول، وارسلت الى الخليج -وقد تشكل تحالف دولي- قوة قوامها 750 الف رجل، 70 بالمئة منهم أمريكيون، تحت قيادة الجنرال نورمان شوارزكوف. في 17 يناير 1991 بدأت عملية "عاصفة الصحراء".
في غضون 43 يوما، في ما تم تعريفه بأنه "أشد حملة قصف في التاريخ"، نفذ طيران الولايات المتحدة والحلفاء (من بينها طائرات فرنسا وإيطاليا)، بواسطة 2800 طائرة، أكثر من 110 آلاف طلعة، واسقط قنابل 250 ألف قنبلة، بما فيها القنابل العنقودية. يوم 23 فبراير، شنت قوات التحالف، المتضمنة 500 الف جندي، هجوما بريا، انتهى بعد مائة ساعة من المذابح يوم 28 فبراير بـ"وقف إطلاق نار مؤقت" أعلنه الرئيس بوش.
لا أحد يعرف بالضبط عدد القتلى العراقيين: وفقا لأحد التقديرات فإنهم حوالي 300 ألف، عسكري ومدني، والعدد أكبر من ذلك بالتأكيد. لقد دفن الآلاف احياء في خنادق بواسطة المدرعات المحولة الى جرافات.
الحظر واحتلال العراق
في الحرب الأولى، قررت واشنطن عدم احتلال العراق، كي لا تنذر موسكو التي كانت في مرحلة حرجة من تفكك الاتحاد السوفياتي وكي لا تشجع إيران الخميني. لهذا، اختارت واشنطن التقدم خطوة خطوة، بضرب العراق اولا ثم عزله بالحصار.
في السنوات العشر التالية، وبسبب الحصار، مات حوالى نصف مليون طفل عراقي، والكثير من البالغين، قتلهم سوء التغذية المزمن، ونقص الماء الشروب، وآثار اليورانيوم المنضب ونقص الأدوية.
هذه الاستراتيجية، التي بادر بها الجمهوري بوش الأب (1989-1993)، واصلها الديمقراطي كلينتون (1993-2001). ولكن خلال التسعينيات، تغيرت بعض الظروف. لقد قُدر أن هدف احتلال العراق، في الوضع الجيواستراتيجي الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط، صار ممكنا. لقد طلب مشروع القرن الأمريكي الجديد، وهو مجموعة ضغط ولدت لـ"تعزيز الزعامة الأمريكية العالمية" في يناير 1998 من الرئيس كلينتون "القيام بتصرف عسكري لإقصاء صدام حسين من السلطة". وحدد في وثيقة تالية، في سبتمبر 2000، أن "مقتضى الحفاظ على قوة عسكرية أمريكية ثابتة في الخليج يتجاوز قضية نظام صدام حسين"، لأن الخليج هو "منطقة ذات أهمية حيوية" يجب على الولايات المتحدة "أن يكون لها فيه دور دائم".
لقد أُقرت –إذن- الاستراتيجية الجديدة، التي اصبح جورج بوش (نجل الرئيس الذي شن الحرب الأولى) منفـّذا لها، قبل ان ينصب رئيسا في يناير 2001.
تلقت هذه الاستراتيجية دافعا قطعيا اثر الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001 بنيويورك وواشنطن (حيث أن التدبير، كما تثبت سلسلة من الأدلة، داخلي بالتأكيد). في فبراير 2003، قدم وزير الدولة كولن باول مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الـ"أدلة" -التي وفرتها وكالة الاستخبارات المركزية، والتي ثبت لاحقا أنها مزيفة باعتراف باول شخصيا- على أن لنظام صدام حسين أسلحة دمار شامل وأنه يدعم تنظيم القاعدة. ولأن مجلس الأمن رفض أن يأذن للحرب، تجاهلته الولايات المتحدة. وفي يوم 19 مارس، بدأت الحرب. وفي 1 ماي، وعلى متن حاملة الطائرات لنكولن، أعلن الرئيس بوش "تحرير" العراق، مؤكدا أن الولايات المتحدة قد عملت بهذه الطريقة على "إسقاط حليف للقاعدة".