تلقى الرأي العام الأمريكي والبريطاني مؤخرا، نبأ التجاوزات والااضطهادات التي تعرض لها السجناء العراقيين بغضب شديد، الحادثة التي لا تعتبر سوى حلقة أخرى في سلسلة حلقات الترهيب والتعذيب التي تمارسها الإدارة الأمريكية بإيعاز مباشر من كبار قيادي الجهاز العسكري الأمريكي، الذي يقود حملة منظمة لترويع المجتمع العراقي.وبعيدا عن أن تكون هذه الحادثة أمرا عابرا، فهي تحمل بعدا ذا دلالات على ما يجري بالمنطقة، وهي إتمام لما قد كلف به نجرو بونت، والذي أظهرته وسائل الإعلام كرسول سلام للعراق، ليتضح فيما بعد أنه لم يعدو أن يكون مسئولا سيضطر للاستعانة ببقايا عناصر نظام صدام حسين، والذين تمت مطاردتهم في بداية الحرب.
قللت القوات البريطانية والأمريكية من شأن عمليات التعذيب والقمع التي تعرض لها السجناء العراقيين
والتي كشفت عنها الصحافة مؤخرا.وحاولت التأكيد على أن هذه الحوادث، هي حوادث عابرة جزئية، وأن مدبروها سيعاقبون.
بعد أيام قلائل، سقط القناع عن خلفيات هذه الأحداث، وفي برنامج لقناة (سي بس آس)الأمريكية، والذي دام لمدة60دقيقة، بث البرنامج صور مهينة أبشع إهانة لسجناء عراقيين بسجن بالقرب من بغداد.وقد كشف محقق جريدة(نيويوركر) "سايمور هيرش" عن تورط مفتشي وزارة الدفاع الأمريكية [1]وضلوعهم وراء الأحداث.كما نشرت بدورها جريدة (دايلي ميرور)شهادات عن سوء معاملة السجناء العراقيين، هذه المرة من طرف ضباط بريطانيين. [2]
في أكتوبر وديسمبر2003، كبير الضباط الأمريكان الجنرال "أنطونيو تاغوبا" كان قد قاد حملة تحقيق في مراكز التحقيق التي يديرها الجيش الأمريكي، وكذا في القواعد العسكرية التي تحوي سجونا.وقد تم تصنيف تقريره المكون من53صفحة في أرشيف العسكرية الأمريكية.هذا التقرير سمح للبعض بالتعرف على التجاوزات غير الأخلاقية وعمليات التعذيب الوحشية التي أودت ببعض السجناء حتى إلى الموت، وخصوصا كتلك التي وقعت بسجن أبو غريب.وقد كان المسؤول عن هذه الإهانات، الوحدة العسكرية رقم800، إلى جانب ضلوع أشخاص مدنيين تابعين لجهاز الاستخبارات الأمريكي، والاستخبارات العسكرية.وجاءت هذه الإهانات بهدف الضغط النفسي على السجناء، وتهيئتهم بعد ذلك لتصريحات شتى يراد لها أن تصدر من هؤلاء المسجونين.
الجنرال"جانيس كاربينسكي"،المرأةالوحيدة برتبة ضابط بالعراق، كانت قد تلقت عدة تحذيرات عن خطر وجود تجاوزات وإهانات للسجناء العراقيين، لكنها لم تأخذ هذه التحذيرات مأخذ المسؤولية من أجل وضح حد لهذه الإهانات.بل بالعكس فقد عمدت هذه المسئولة إلى التصديق على مجموعة تقارير ملفقة ومشحونة بالكذب من أجل صد كل الدعاوى القضائية المرفوعة ضد التجاوزات.
وواضح أن الصور المنشورة من قبل جريدة (الدايلي ميرور)، كانت جد معتبرة وواضحة للعيان، فالحديث يجري صراحة عن انتهاك للحرمات وللشرف للانسان العراقي من طرف جنود بريطانيين في المناطق التي يحتلونها.
والمعلقون الذي يصرحون أنهم قد فوجئوا من هذه الصورة، هم على قدر كبير من السذاجة.فالأمر ليس بغريب على المتتبع للأحداث بالمنطقة، ونحن نستمع يوميا إلى الدعاوى القضائية التي يرفعهاالعراقيون احتجاجا على تجاوزات في حق ذويهم في السجون.بل كان المفروض معنويا ومهنيا أن تعرض هذه الأحداث من زاوية تحليلية سياسية تكشف أبعاد هذه المهاز، وتعرية الخلفيات التي تقف وراءها،الأمر الذي قدلا يرضي البعض.
والحقيقة، أن هذه الأحداث ليست عابرة، ولا جزئية طارئة.وحتى إذا لم نقل أنها نتيجة أوامر عسكرية، فهي نتاج استراتيجية عسكرية تنفذ بالعراق، ويبتغى من ورائها كسر شوكة المقاومة ليس إلا.
وقد كان البنتاغون أعلن يوم12ديسمبر2003، حملة عسكرية ضد المقاومة سماها "المطرقة الحديدية".ويشرف عليها الجنرال ويليام جيري بويكين، والذي مافتىء يصرح أن (عدوك الحقيقي هو عدو ميت).الجنرال بويكين أحد رموز الفاشية القديمة الجديدة،سبق له تورطه في حرب كولومبيا، وبالتحديد قتله ل"بابلو ايسكوبار".بويكين معروف بتطرفه المسيحي، والذي يحمله إلى تصوير المسلمين على أنهم شياطين.وقد قاد عملية التعذيب هاته بالتعاون مع ضباط إسرائيليين تقاسموا معه الخبرة الكبيرة في تعذيب البشر وترويعهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة.والهدف في النهاية لهؤلاء وهؤلاء هو ترويع المجتمع حتى يلفظ عناصر المقاومة ويتبرأ منها.
ونذكر من بين العناصر المعلنة في تقرير "تابوغا"، العقيد ستيفن جوردن، مدير مركز الحربية الأمريكية، والذي أقيل مؤخرا.وحسب طبيعة وظائفه، فلا يمكننا التصديق بأن عمليات التعذيب قد لا تتعدى إلى سجون أخرى غير سجن أبو غريب.
وفي اعتقادنا، فان العمليات العسكرية قد تكون نجاحا عسكريا في آن، وفشلا سياسيا في نفس الآن، فقد تتداخل المعادلتان في جدلية لانهائية.ولهذا وللأسف نرى كيف أن عمليات التعذيب هاته ستمدد لتشمل كل التراب العراقي مع مجيء نجروبونت شهر جويلية القادم مع عملية " المطرقة الحديدية".هذا الأخير يعتبر من العقول المدبرة لما يعرف بالحروب "ذات الأثر الخفيف"، والتي هي في حقيقتها حروب ضد الشعوب، كما تفسرها أحداث أمريكا الوسطى القذرة، كما فعلت وحدات الموت في كل من هندوراس، السلفادور ونيكاراغوا.وقرار نجروبونت الأول على ما يبدو، يتمثل في استدعاء بقايا بعثيي صدام حسين الموالين لإدارته، لأنه لا يمكنهم أن يعودوا إلى الحكم إلا بعد إعادة تكوينهم تكوينا جيدا.
وتحاليل الانتهاكات تشير إلى أنه ليسوا الأمريكان وحدهم الضالعين فيها، بل معهم إخوانهم البريطانيين يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.هذه المعلومة التي لم تأخذ بعد مفعولها على صفحات الصحافة الغربية التي لم تتمكن بعد من هضم امكانية تورط البريطانيين في انتهاكات حقوق السجناء.لكن ماهو مهم في تقديرنا هو أنه هاته الانتهاكات لا تمثل سوى واحدة من عمليات تالية من القمع والإرهاب الذي ستمارسه واشنطن في حربها المعلنة ضد العراق وشعبه.
في موضع آخر، يمكن أن نلاحظ معن ما، هو تأنيث وحدات الجيش، لتظهر لنا مجموعة من النساء المؤهلات للتعذيب تماما كما يفعل الرجال، خصوصا عندما يستحوذن هؤلاء على مقاليد القوة، وتواتي الفرص للانتقام.
في الأخير، نشير باهتمام إلى دور"المنفذين المدنيين"في هاته الانتهاكات القذرة.فتقرير "تابوغا" يضع عملاء شركة "تيتان كورب" محل التشكيك.هذه الشركة هي التي كلفت بملف الإسعافات إبان تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر2001، ويعتقد أن أحد أفرادها من دبر هذه الانتهاكات بالسجون، أما الآخرين فنجهل أدوارهم إلى الآن.
وقد توقع يقينا بعض مناصري الحرب على العراق، وبحسن نية أن الهدف من الحرب هو الإطاحة بنظام صدام حسين، ويتوجب عليهم أن يدركوا أنهم لم يزيلوا قوة طاغية إلا ليتيحوا المجال لقوة أخرى أكثر طغيانا وانتهاكا لحقوق الانسان.