يحاول فؤاد السنيورة، المكلَّف بتشكيل الحكومة اللبنانية، الوصول إلى صيغةٍ تُرضي سائر الأطراف السياسية الرئيسية على الأقلّ. والظاهرُ حتى الآن أنّ هناك فُرقاءَ سياسيين يجعلون الأمر صعباً على الرئيس المكلَّف، لأنهم يريدون تحقيق أمرين؛ الأول إثبات أنهم انتصروا في الانتخابات ومن حقّهم أن يجنوا ثمرات النصر. والثاني أنهم المؤتَمَنون دون غيرهم على المصالح الوطنية الكبرى. ودعوى الانتصار تشمل كلاًّ من جنبلاط وعون وأمل وحزب الله وطبعاً تيار الحريري. لكنْ لأنّ تيار الحريري هو الذي يشكّل الحكومة فقد فَقَدَ منذ البداية دعوى الانتصار وحقوقه، وانصرف للاستماع لطلبات "المنتصرين" الآخرين، ومحاولة التوفيق بينها ولو على حسابه.
في الظاهر ما كان لعونٍ مطلبٌ ظاهرٌ غير وزارة العدل. وقد رفض الحريريون إعطاءه هذا المطلب، لحساسية ملفّ الحريري في الوزارة المذكورة، وفي تعاملها مع لجنة التحقيق الدولية. وقد قيل إنّ إصرار عون على استلام تلك الوزارة، علتُهُ وجودُ ملفٍ له وعليه فيها, لكنّ المحكمةَ برأتْهُ قبل أربعة أيامٍ؛ فلم تعد لديه حاجةٌ للحرص على تولّي تلك الحقيبة؛ أو بمعنىً آخر: هل يعودُ عن استنكافه، ويخبر السنيورة بأنه مستعدٌ للمشاركة بحقيبة التربية بدلاً من العدل؟ أو أنه ما يزال يُصرُّ على الإصلاح الشامل، والمحاسبة الشاملة من خلال القضاء وفتح الملفّات، وبالتالي تظلُّ وزارة العدل أَولويةً لديه؟! الظاهر أنّ هذا هو ما يخشاه وليد حنبلاط من مشاركة عون. إذ قال قبل أربعة أيامٍ أيضاً إنّ حديث عون عن الملفّات يشبه حديث لحود عن ذلك ما بين العامين 1998 و2001. فهو حليفٌ للحود، ولا يمكن التعاوُنُ معه!

بيد أنّ مسألة عون أخطَـرُ من ذلك في الحقيقة. فقد صار كثيرون -ومن ضمنهم البطرك ورئيس الجمهورية- يعتبرون عوناً الممثل الحقيقيَّ للمسيحيين، باعتباره قد حصل على كل المقاعد النيابية تقريباً، في المناطق المسيحية الخالصة. وهكذا، فإن لم يتمثَّل عون في الحكومة السنيورية، فهذا معناه أنّ الطرف المسيحي الرئيسيَّ غير ممثَّل. وقد يُهدِّدُ ذلك بالعودة إلى التجاذُبات التي بدأت في العام 1992 عندما اعتبر المسيحيون أنّ سوريا همَّشتهُم، وظلُّوا على هذا الاعتقاد حتى الانسحاب السوري. فعون يعتقد إذن ليس أنه انتصر وحسب؛ بل وإنه يمثّل فريقاً كبيراً من اللبنانيين. بيد أنّ آل الحريري مُحْرَجون لهذه الجهة. فهم ما تحالفوا مع عون في الانتخابات؛ بل تحالفوا مع فُرقاء مسيحيين آخرين هم القوات اللبنانية وقرنة شهوان والإصلاح الكتائبي. كما رشّحوا وأنجحوا نواباً من الأرمن والمسيحيين والمستقلّين. فلو فرضنا أنّ عوناً وافق على المشاركة، فهو سيأخذ ثلاث وزارات للمسيحيين من أصل 12؛ لكنّ الوزارات الباقية للمسيحيين لن تكونَ مهمةً؛ فضلاً على أنّ كثيرين سيقولون: إنّ هؤلاء الموزَّرين إنما انتخبهم المسلمون وليس المسيحيين، وهم سيمثّلون مصالح الذين انتخبوهم، وليس مصالحنا نحن! ولذلك يظلُّ حيوياً جداً مشاركة عون مهما كلّف ذلك.

المنتصرون الآخَرون وليد جنبلاط والفريق الشيعي. أما جنبلاط فمطالبُه كثيرةٌ. فضلاً عن وزارتي الداخلية والإعلام. إذ هو يريد عزل عون ورئيس الجمهورية، وتمثيل المسيحيين(المعارضين) في الحكومة، وإرضاء أمل وحزب الله سبيلاً لإرضاء سوريا. لكنّ عوناً ورئيس الجمهورية علاقتهما بسوريا فيما يبدو أفضل من علاقاته هو. ولذلك تتناقضُ مطالبُه بين يومٍ وآخر، ويتفوقُ فيها نفورُهُ من عون، الذي سلب منه المسيحيين الذين عمل عليهم طويلاً. وبسبب هذه العوامل لا يبدو جنبلاط عاملاً مساعداً في تشكيل الحكومة الجديدة.

أما الفريق الشيعي، فقد أظهر فَرَحاً بمجيء السنيورة؛ لكنْ بعد صمْت ثلاثة أيام أصرَّ على أخذ حقيبة الخارجية، بحجة أنه لا يأمنُ الآخَرين على ملفّ القرار رقم 1559 الذي يعارضُهُ، ويأمُلُ أن تظلَّ وزارة الخارجية اللبنانية صامدةً في هذا الشأن بعد الانسحاب السوري. ولا يستطيع الرئيس المكلَّفُ قبول ذلك لأنّ معناه اتهام سائر الفرقاء- باستثناء الفريق الشيعي- بعدم الحفاظ على المصالح الوطنية. والأمر الآخر أنه لا مصلحة للبنانين في أن تُدارَ سياستُهُم الخارجية من سوريا بعد انسحابها؛ وهذه مسألةٌ معروفةٌ عن سائر وزراء خارجية لبنان فيما بين العام 1992 والعام 2005 وبخاصةٍ وزير الخارجية الشيعي الحالي محمود حمود. والواقعُ أنه كما في حالة عون، تكمن وراء الموقف الشيعي، أُطروحةٌ مؤداها أنهم مستهدَفون، وأنهم متحصّنون في مناطقهم ومقاعدهم، ولا يأخذون الأمور بالجملة؛ بل مسألةً مسألةً، وهم يمتشقون موقفَهُمُ القائلَ بحماية المقاومة، وباستمرار العمل مع سوريا. ولذا فإنّ الإصرار على وزارة الخارجية، قد يكونُ المُرادُ به عرقلةَ تشكيل الحكومة، أو يُسَلّم الرئيس المكلَّفُ وفريقُهُ السياسي بالعودة إلى "التنسيق" مع سوريا في السياسة الخارجية على الأقلّ، وكأننا يا أخ لا رُحنا ولا جينا! وقد سبق لرئيس الوزراء المكلَّف أن قال لكلٍ من بري ونصر الله: إنّ لبنان لا يُحكمُ ضد سوريا، لكنه أيضاً لا يُحكمُ من سوريا!

ويبقى موقف رئيس الجمهورية من تشكيل الحكومة، وهو غير واضحٍ حتى الآن، رغم كثرة الشائعات. فهناك من يقول إنّ رئيس الجمهورية نسَّق مع عون، وموقفهما واحد، أي أنه لن يوقّع مراسيم تشكيل الحكومة إن لم يكن عون ممثَّلاً فيها. وهناك من يقول إنه يريد فقط صهره الياس المر وزيراً، وإن أمكن شارل رزق في وزارة الإعلام؛ وهو وزيرها الحالي. لكنني ما أزالُ أعتقدُ أنّ الموقفين الأساسيين هما موقف عون، وموقف الفريق الشيعي، والتنازُل إن جاء من رئيس الوزراء المكلَّف فقدت حكومتُهُ معناها؛ لكنّ التنازل إن جاء من الفريقين؛ فقد يعني ذلك توافُقاً على بدء عهدٍ جديد؛ حتى وإن أزعج ذلك وليد جنبلاط.

على أنّ هناك ضعفاً كامناً في موقف الرئيس المكلَّف وتيار الحريري. إذ يستطيع أن يجمع حوله وحده حوالي الأربعين نائباً؛ ومع ذلك فإنّ أصغر التيارات وأقلّها قوةً تستطيع بالفيتو أن تعرقل تشكيل الحكومة. ويرجع ذلك إلى أنّ السنة توحَّدوا وراء سعد الحريري انتقاماً لاستشهاد والده الرئيس رفيق الحريري. وبسبب الانتشار الواسع لهم، أمكن أن يفوزوا بمقاعد كثيرة في مجلس النواب، وليس من المسلمين فقط؛ بل ومن المسيحيين. وبذلك ظهرت لديهم أكبر كتلة في مجلس النواب، وسارعت سائر الكتل للتصويت لتكليف السنيورة لكي تُظهر اقتراباً من المرحلة الجديدة. لكنّ الأمر انتهى عند هذا الحدّ. فكلُّ الفرقاء لم يتغيروا، كما أنّ طبيعة النظام لم تتغير. إذ جوهر النظام اللبناني التوافُق، وهذا ظاهرٌ بالإيجاب كما بالسلْب؛ لكن السنة ذوي الحجم الضخم يفتقرون للقيادة المجربة. ويضاف لذلك أنّ الشيعة ما يزالون يجهرون سياسياً بالانتماء إلى سوريا وإلى مصالحهم التي يفصلونها عن المصالح الأُخرى بحجة حماية المقاومة، وعدم الثقة بالمسيحيين. أما رئيس الجمهورية وعون والبطرك فقد التقوا على قواسم مشتركة، تتضمن حفظ مصالحهم، مع تذمرٍ ظاهر من سيطرة الحريري وجنبلاط على نصف النواب المسيحيين.

وهكذا فحتى لو تشكلت الحكومة بتنازلاتٍ متبادلةٍ، لن تستطيع العملَ على البرنامج الذي أعلنه السنيورة: في السياسة تنفيذ الدستور واتفاق الطائف، وفي الأمور الأخرى الإصلاح الإداري، والنهوض الاقتصادي. فاتفاق الطائف الذي لا يقول به الجنرال عون، يفترض اشتراع قانون انتخاباتٍ جديد. والمسيحيون يريدون القضاء، وكذلك وليد جنبلاط؛ في حين يفضّل المسلمون سنةً وشيعةً المحافظة دائرةً انتخابية. واتفاق الطائف ينصُّ على وصول قوات الجيش اللبناني إلى الحدود الدولية؛ لكن حزب الله وحركة أمل يأبيان ذلك بحجة حماية المقاومة. والإصلاح الإداري يعني إخراج ألوفٍ من الموظفين غير العاملين حقيقةً من إدارة الدولة التي حُشروا فيها في السنوات الخمس عشرة الماضية. وليس من مصلحة أي فريق، باستثناء فريق الحريري، الموافقة على ذلك. والعمل الاقتصادي يعني تصرفاً تُجاه الخارج، والخارج لن يستجيب إلاّ بتنفيذ القرار 1559، وهذا لا يمكن تنفيذه لاعتراض الشيعة عليه. ومن وراء ذلك كلّه تقف سوريا معرقلةً ومزعجةً ومنزعجة. والأميركيون والفرنسيون يتصورون مساراً سريعاً للأمور؛ لكنهم لا يبوحون لنا بمعالمه: فهل يعينون هم والعرب في التشكيل، أم أنّ الأمور ستظل تُراوح مكانها؟!

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)