لئن اشتُهرت كردستان العراق، بين ما اشتُهرت، بالزوايا والتكايا والطرق الصوفية، فغنيٌ عن القول إن خياراتها السياسية الراهنة تفد من مصادر أخرى مغايرة. فعلى مدى المساجلة المستمرة للتوصل الى دستور عراقي، مثّل الأكراد، ويمثّلون، أشد الأطراف المعنية استنارة وأكثرها انشداداً الى مثالات زمنية في تصور السياسات والدساتير، وفي رسم صورة المستقبل تالياً.
وهذا لا يلخص كردستان السياسية بالطبع، ولا يحجب التراكيب العشائرية وحزازات الجماعات الأهلية وسوى ذلك. لكن كردستان تبقى غير الجنوب والوسط الشيعيين المتمسكين بـ «اسلامية» الدولة العراقية المنشودة. وهي غيرهما لجهة وضع المرأة التي يُراد، في المناطق تلك، تكبيلها بإلزامات قروسطية تنافي أبسط مبادئ الحرية والمساواة وأدنى مقومات المعاصَرة. وهي، كذلك، ليست مبهورة، على ما هي حال المناطق المذكورة، بالنموذج الخميني لإيران. وهذا الأخير قد يكون نادراً بين الثورات التي تعود، بعد ربع قرن على قيامها، الى الينابيع الأولى تشدداً وتزمتاً، فترفع أحمدي نجاد الى الرئاسة وتأتي بحكومة تهيل التراب على الخاتمية «الغورباتشوفية».
واذا كان الجنوب والوسط يضبطان أصوليتهما الظافرة على ايقاع «مؤسسي»، يرافقه وعد بسلطة على مناطقهما، وربما على العراق كله، فإن الاصولية السنيّة المهزومة والعاصية تنحو نحواً آخر. ذاك انها استقرّت - وليس ثمة نموذج كالايراني تقتدي به - على ارهاب مفتوح وغير مسبوق في بدائيته يُناط به انجاز «برنامج» طوبوي غامض.
وواضحٌ ان الحالة الكردية تنأى عن الحالة السنية العربية هذه نأيها عن الحالة الشيعية العربية تلك، وانها تتقدم عليهما أشواطاً، كائناً ما كان القياس.
وقد يقال الكثير في الطليعية الكردية هذه، وقد يُجرَّب عديد الأفكار والتحليلات في محاولة تفسيرها، بيد ان قراءة الحرب العراقية من زاويتها تنطوي على بعض الافادة والمعنى. فالمعطيات أعلاه وغيرها تشير الى أن أكراد العراق أكثر العراقيين تأهيلاً لاحتضان تجربة سياسية حديثة، وربما ديموقراطية، كالتي زعمت الولايات المتحدة انها تحملها للعراق. وبحسبة معدلات الكراهية للغريب، كما بحسبة الكلفة البشرية والأوضاع الأمنية، لا يرقى الشك الى ان الحضور الغربي في كردستان موضع ترحيب لا مثيل له في الجنوب والوسط. أما الغرب فليس لديه الا الموت يستقبل به الغريب والقريب على السواء.
ومواصفات كهذه لازمت الأقليات في المنطقة، الاثني منها والديني، عموماً. فهي كانت على الدوام الأشد احتفاء بالغريب، حضوراً ودوراً وأفكاراً وقيماً، ترى في احتلاله، حين يحتل، ما يتعدى العمل العسكري والاخضاعي البحت. وهي، في المقابل، الأوفر استعداداً للتخفّف من الموروث المحلي والمؤدلج الذي يتخذه الأخ الأكثري الأكبر ذريعة لاضطهادها.
فالحرب الأميركية، والحال هذه، ضيّعت على الجميع، بمن في ذلك الولايات المتحدة نفسها، فرصة الاكتفاء بتعزيز التجربة الكردية كما فرضت نفسها ابان العهد البعثي، وتطوير نموذجها الجاذب (؟) لسائر العراقيين، بعيداً من مسلسل العنف والموت الذي سجله العامان الماضيان ولا يزال يتواصل، وبعيداً من الأكاذيب التي حفّت بالحرب، والتجاوزات على القانون التي رافقتها. أما الحصاد الإيراني الذي استحضره الزرع الأميركي، فما كان أصلاً ليكون.
وهذا، بطبيعة الحال، ضرب في «ما لم يحصل». غير انه يلقي الكثير من الضوء على «ما حصل»، وعلى الحماقات الاستثنائية والسذاجة الايديولوجية التي جعلته يحصل.