اذا كانت التسوية مع رئيس الجمهورية خطيئة كبرى لا يبررها سوى بعض الهواجس التي كنا ظننا ان التقاء غالبية اللبنانيين في انتفاضة الاستقلال قد بدد الكثير منها، فان التسوية مع النظام السوري الذي تتوجه صوبه الشكوك الكبيرة بالوقوف خلف جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري تثير اشكالية كبيرة، وتتعلق بطريقة الفصل بين علاقة شعبين شقيقين يجمع بينهما التاريخ والجغرافيا والاجتماع والمصالح، والعلاقة مع نظام يحكم سوريا منذ اكثر من اربعة عقود، وقد انهى في نيسان 2005 مسيرة من التدخل في الشؤون اللبنانية في شكل دراماتيكي لا يحسد عليه.

بداية لا بد من الاشارة الى ثلاثة احتمالات "تقليدية" تتعلق بعلاقة النظام السوري بنتائج التحقيق: فاما ان يخرج التحقيق باستنتاجات حاسمة مدعمة باعترافات وادلة حسية على ضلوع النظام في شكل او في آخر، وإن على مستوى القيادة العليا في دمشق او على مستوى القيادة المخابراتية في لبنان، واما ان ينتهي التحقيق الى خلاصة مفادها ان لا ادلة كافية وحاسمة لتجريم اي مستوى من مستويات النظام، مع ابقاء شبهات كبيرة، واما ان يحسم التقرير الجدل فتبرأ ساحة النظام على جميع المستويات.

ثلاثة احتمالات مؤرقة للبنانيين واكثر للنظام السوري الذي يشعر، ولا شك بان تحقيقات ديتليف ميليس يمكن ان تصل اليه من بوابة عنجر، مثلما يمكن ان تبلغه مباشرة في قلب ماكينة القرار. اما نحن فما يهمنا هنا هو الحديث عن السيناريو الاكثر دراماتيكية في ما يخص العلاقات اللبنانية – السورية، وآفاق تسوية تاريخية جديدة في حال ثبت بما لا يقبل الشك ان للنظام السوري يدا في اغتيال شخصية لبنانية بحجم رفيق الحريري عام 2005، اي في زمن لم يعد فيه الاغتيال السياسي اداة سهلة من ادوات العسكريتاريا العربية في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

في السيناريو الاكثر دراماتيكية ان يحدد ميليس مسؤولية حاسمة للنظام السوري في الاغتيال: اولا، لن يكون الامر مفاجئا للبنانيين ولا لملايين العرب من المحيط الى الخليج، فالبرودة التي يواجه بها المسؤولون السوريون، اينما حلوا حتى في القمم العربية، (قمة الجزائر مثالا)، تستند الى اقتناع راسخ بان لدمشق علاقة باغتيال الحريري. اكثر من ذلك لا يصدق احد كلاما انتشر بالتواتر نقل عن الرئيس بشار الاسد عندما زار الرياض وقابل الملك عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد آنذاك) في نهاية شهر شباط 2005، ويومها نقلت وكالات عالمية بعض ما دار بين الرجلين (الارجح بتسريبة مأذونة من الديوان الملكي السعودي) من اتهام مباشر ساقه المسؤول السعودي الى النظام السوري بالضلوع في اغتيال الحريري. وقد سرب كلام "كبير جدا" لم تعهده المحادثات بين رؤساء الدول وخصوصا العرب منهم الذين يحترمون ادبيات التخاطب التقليدية.

ولا يحتاج المراقب الى البحث طويلا في تفاصيل ما دار بين الرؤساء في قمة الجزائر العربية في 21 آذار 2005، والمناخ الذي ساد المناقشات بين الوفد السوري، وكان الاسد رئيسه، وبقية الوفود العربية، فضلا عن مناخات مقر اقامة الوفود الرسمية في فندق هيلتون بالجزائر!

المهم مما تقدم القول ان لا احد سيفاجأ اذا وصل التحقيق الى النظام في دمشق.

ولكن كيف يمكن اللبنانيين ادارة الازمة التي ستستعر مجددا هذه المرة على خلفية قضائية دولية؟

هذا هو السؤال المحوري الذي ينبغي لنا درسه بعمق.

وهنا نعود الى الاشكالية الكبرى: كيف نحمي العلاقة مع الشعب السوري الشقيق في حين يُتهم نظامه بالضلوع في اغتيال الحريري؟

وكيف نمنع النظام من الذهاب بعيدا في تحريض الشعب السوري ضد اللبنانيين في محاولة لتحصين نفسه في مواجهة الشرعية الدولية والقضاء الدولي (ربما)؟ والى كم من الوقت سيحتاج البلدان من اجل الخروج من ازمة الاغتيال هذه إن لم تكن وحيدة (سمير قصير، جورج حاوي)؟

وكيف يمكن التفكير اذذاك بتسوية مع نظام لا شيء يضمن عدم تكرار ما اتهم به؟

واين سيكون موقع لبنان في خضم تداعيات توجيه الاتهام الى النظام السوري واحتمالات متابعته في محاكم دولية؟

غالب الظن ان التسوية ستكون صعبة جدا مع نظام سيسارع على الارجح الى نفي التهمة، وتوجيه المعركة صوب "مؤامرة اميركية – صهيونية اداتها ميليس وتقريره المبني على استنتاجات سياسية"! الا تشكل الحملة الاعلامية المحلية المعيبة المنسقة (بداية في الداخل) مدخلا الى محاولة اشاعة البلبلة في عقول اللبنانيين، وتوجيه المسألة الى الشك في لجنة التحقيق الدولية واعمالها؟

بالطبع ان للتسوية اللبنانية مع النظام السوري وجها آخر يتجاوز قضية اغتيال الحريري، الى مسألة جوهرية اخرى ترتكز على الاجابة العملية عن السؤال: متى يدرك النظام السوري انه خرج من لبنان ومن قلوب اللبنانيين، وان لا عودة الى الوراء؟ ومتى يدرك ان عليه التعامل مع لبنان مستقل استقلالا تاما؟ والاهم من ذلك متى ينضج تفكير لا يقود صاحبه تلقائيا الى محاولة تحطيم كل ما يعجز عن الحصول عليه؟

مصادر
النهار (لبنان)