وجه رفيع من الوجوه الفكرية اليسارية البولونية، السيناتور ماريا شيشكوفسكا التي صارت زعيمة اليسار المعارض للكنيسة الكاثوليكية البولونية، والمعارض للحرب على العراق بقوة. رُشحت من طرف وزيرة الشؤون الخارجية السويسرية و عدد من الجمعيات الدولية لأجل الحصول على جائزة نوبل للسلام.. أما من ناحيتها، فقد رشحت نفسها لرئاسة الجمهورية البولونية... وهي هنا تجيب على أسئلة شبكة فولتير.
السؤال: أنت فيلسوفه، باحثة و سيناتور، ورغم هذا فقد طلبت حماية خاصة من الشرطة. ما السبب ؟
ماريا شيشكوفسكا: مجتمعنا البولوني اليوم موصوف بعدم التسامح من جهة، و كوني اقترحت من جهة أخرى مشروع قانون يحدد الاطار القانوني للعيش بين الأشخاص من نفس الجنس ، في نفس الوقت اقترحت مشروع قانون حول حق الموت الرحيم (l’euthanasie)، وقد أثار ذلك غضب العديد من البولونيين الذين ينصاعون لتعاليم رجال السلطة الكنسية. لقد هددت، و هذا شيء في حد ذاته سلوك بعيد عن التعاليم المسيحية.
مع ذلك فقد ترشحت للانتخابات الرئاسية المقبلة؟
ماريا شيشكوفسكا: فعلا لقد قررت ذلك بدافع إحساسي بالامتعاض الشديد من الكثير من المظاهر التي تثير المخاوف في بولونيا. أنا أفكر مليا في هذا الصعود الرهيب للتيارات الفاشية، و في التطرف الديني، و في ذات الوقت في الوضع الاقتصادي الحالي الذي يعيش فيه نصف شعب بلادي في حالة من سوء التغذية. ثمة ظواهر أخرى من حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي تثير مخاوفي أيضا، مثلا، الخصخصة الشاملة التي لا يستفيد منها الشعب. فالحكومة البولونية لا تحترم الممتلكات العامة و لا التعاونية.
وماذا يستطيع رئيس الجمهورية أن يفعل في بلد الحكومة و وزاراتها هم المسئولون الفعليون؟
ماريا شيشكوفسكا: رئيس الجمهورية بامكانه أن يفعل الكثير.. أكثر مما يقدر يفعله السناتور. فطوال فترة نشاطاتي البرلمانية، كانت تنقصني القوة التنفيذية. مثلا، الرئيس مسؤول دستوريا عن السياسة الخارجية و عن الدفاع و يمكنه أن يفعل ما لم يفعله إلى الآن، أي سحب قواتنا من العراق و وضع حد لهذه الحرب المخجلة. فنهاية هذه الحرب ستسمح بحل الكثير من المشاكل الاجتماعية. لأن المال الذي يذهب إلى الحرب و التسليح يمكن استغلاله لأغراض اجتماعية. بالإضافة إلى أن الرئيس يمكنه مباشرة سياسة ودية مع جيراننا المشرقيين. مثل تلك السياسة ستكون مفيدة لبولونيا، على الأقل على الصعيد الاقتصادي.أما الحكومات التي تتالت في بولونيا منذ َ1989 ، فقد خاضت كلها سياسة كارثية إزاء جيراننا في الشرق. الرئيس له أيضا حق اقتراح قوانين على البرلمان، مثلا، فيما يخص المسائل الاجتماعية، حول مكافحة البطالة. الدفاع عن المستأجرين المهددين بالطرد من قبل الملاك. ثمة العديد من المسائل التي يجب وضعها بعين الاعتبار، و أهمها انسحاب جنودنا من العراق.
هل أنت ناشطة سلام؟
ـ ماريا شيشكوفسكا: نعم أنا ناشطة سلام. لقد أخذ ذلك مسارا طويلا من حياتي، لأني تربيت داخل فكر رجال الثورة بمن فيهم أولئك الذين ماتوا لأجل حرية وطني. إنها في الحقيقة فلسفة "كانط" التي شدتني و شكلت قناعاتي ونشاطاتي السلمية.
كنت حتى الأمس القريب شخصية أكاديمية ومنظرة، ومنذ سنوات، انخرطت في السلك النضالي مدافعة عن المقصيين و عن الأشخاص الذين يعانون من التمييز. لماذا في بولونيا الحالية، في دولة تقع في وسط أوروبا نفسها، غنية بتقاليدها الثقافية و العلمية، منذ بداية القرن الواحد و العشرين، عليها أن تكافح ضد آفة "كره الأجانب"، و اللا تسامح؟
ماريا شيشكوفسكا: هذا لأن الوعي الاجتماعي في بولونيا لم يتطور في الحقيقة منذ نهاية القرن العشرين و بداية القرن الواحد و العشرين. فليس هنالك هامش كبير لحرية المرأة، وليس ثمة قوانين مساواة بين الرجال و النساء معتمدة من قبل برلماننا. هناك مشكل معاداة السامية المتزايد منذ مائة سنة، بما في ذلك مشاعر العداء إزاء الجنسيات الأخرى. أعتقد أن لبلدنا الكثير من العقد، و بسبب تلك العقد، فنحن نشعر أننا أقل قيمة من الدول الأوروبية الغربية، و لأجل تعويض مركب النقص ذلك، نوهم أنفسنا أننا أفضل من كل الدول الشرقية.
لقد انسحبت من تحالف اليسار الديمقراطي (SLD )، الحزب الحاكم الحالي، و الذي تسود فيه البراغماتية على حساب المثالية. كيف تنظرين إلى واقع اليسار البولوني اليوم؟
ماريا شيشكوفسكا: أنا جد قلقة، خصوصا و أننا أمام تيار يميني قوي، غني و متطرف. لكن المجتمع البولني يبقى في أغلبه متعاطفا مع اليسار. أحزاب اليسار براغماتية و أقل مثالية، ولا تسعى إلى توسيع دائرة الفكر اليساري في بولونيا. قبل سنوات، لم أكن فقط عضوا في تحالف اليسار الديمقراطي، و لكني كنت أيضا رئيسة لجنة السلوك لهذا الحزب، وكانت فأغلبية المسائل التي تعاملت معها في تلك اللجنة كانت مرتبطة بقصور المثالية لدى المناضلين في تحالف اليسار الديمقراطي، والأشخاص الذين كانوا يتمتعون بحس مثالي، كانوا أبعد من الخضوع للفساد و المحسوبية. فأن يكون هنالك بعدا مثاليا، فان ذلك يعني وجود حصن منيع ضد الفساد.
انقسم التحالف مؤخرا إلى شق آخر اسمه الحزب الاجتماعي الديمقراطي البولوني، الذي يقوده رجلا كان لمدة طويلة مسؤولا بالحزب الأم، و هو مارك بوروفسكي. و هو حزب يريد التجرد من التبعات والمسئوليات التي خلفه الحزب الأم الحاكم حاليا. لكن حسب رأيي، هذا الحزب كاذب مرتين. لأن بروفسكي هو نفسه من خاض مع الوزير الأول الأسبق "ليسزك ميلر" سياسة اقتصادية لبرالية، كما ساهم في تدويل الكاثوليكية بدل تطوير التعددية في مجال التعبير عن الرأي و الإصلاحات الاقتصادية المجسدة لمصالح المجتمع. أشخاص مثل هؤلاء هم في الحقيقة، ممثلوا المصالح الكبرى للرأسمالية.
لكن الأحزاب اليسارية الجديدة خيبت ظني أيضا. « فالخضر2004» الذين بدوا قبل أشهر كمجموعة مثاليين، سياسيين شرفاء، و شباب يبحثون عن قيم اليسار، هم اليوم منضمون إلى حلف بروفسكي. وعن شخصيا، فاني أضع كل آمالي على الحزب التقدمي. المناهض لسلطة الكنيسة.
لكن الظروف العامة للأحزاب اليسارية توحي بكثير من اليأس. وان كان المجتمع البولوني لا يستعمل تعبير التغييرات، إلا أنه ينتظر الكثير من هذه التغييرات من اليسار.
ـ في السنوات الأخيرة، لمسنا ظهور العديد من الأحزاب الصغيرة على مسرح التيار اليساري........
ماريا شيشكوفسكا: أحترم كثيرا أحزاب اليسار الجديد مثل حزب " بيوتري ايكونوفيتش". وصحيح أن هذا اليسار لا يتمتع بشعبية كبيرة حاليا، لكنه نجح في حل حل الكثير من المشاكل التي تمس الأشخاص الذين يعانون من ضيم القوانين التي تفرضها (حكومة اليسار) الحالية. فأنا أتمنى إذن أن تنطلق أحزاب اليسار من منطلق رؤيتها الاستمرارية وقاعاتها.
في أحد تصريحاتك، ذكرت أن غياب المثالية أخطر من التطرف؟
ماريا شيشكوفسكا: الشخص المتطرف يمكن تصور أفعاله وتصرف عواقبها. لكن بالمقابل، عندما تغيب المثالية، فذلك أمر خطير، لأن الأشخاص و التنظيمات الخاصة و المتجذرة حينها ستتصرف من منطق براغماتي بحث وغير منتظر. فقد يقومون بتحالفات اليوم، ثم يلغونها في اليوم الموالي، إذا بدا لهم شريكا آخر يعرض عليهم امتيازات أحسن.
هل تنتظرين كالعديد من السياسيين البولونيين شيئا ملموسا من انضمام بولونيا إلى الاتحاد الأوروبي؟ في كتابك الأخير: "يسار القرن الواحد والعشرين" كتبت: " سيكون مضرا الاتحاد لأجل مصالح الدول الاقتصادية الكبيرة التي تسعى إلى زيادة فوائدها عن طريق هذا الاتحاد"؟
ماريا شيشكوفسكا: أنتظر من الاتحاد الأوروبي أن يجسد المزيد من العدالة و حرية التعبير ببولونيا. لكن للأسف، في هذا المجال تبدو التشريعات السائدة هي تلك التي صاغتها الدول القوية. غير أن مشروع الدستور الأوروبي يقرر أن كل فرد هو كيان مستقل بذاته، هذه النقطة في غاية الأهمية من وجهة نظر المواطن البولوني.
نحن في بولونيا نعتبر أن كل واحد جزء من عائلته، أي أنه شخص غير مستقل تماما عن البقية. و هذا يعكس المعتقد الأسري غير الصحي الموجود في بولونيا و الذي يساهم في تكريس النفاق الأخلاقي، في الوقت الذي تحمل فيه إلينا الصحافة صور العنف الأسري، غياب التفاهم، و عن حالات الزواج التي تتم بسبب حمل المرأة، و زنى المحارم. ففي هذا الإطار توجد بعض الفقرات داخل مشروع الدستور الأوروبي التي يجب الاحتفاظ بها لكونها غير قابلة للتطبيق على الساحة البولونية في انتظار تحولات على مستوى العقلية البولونية.
يجب أن أذكر في هذا السياق، أن نص الدستور عندما يشير إلى مسألة اعتماد نهج اللبرالية الاقتصادية كنمط وحيد بالدول الأعضاء، يثير الكثير من مخاوفي.
في كتابك الذي ذكرناه الآن، كتبت أن عبارة "أوروبي" عبارة تحمل الكثير من المعاني، كتبت أيضا أن " الأوروبي يمكنه أن يكون عربيا يجسد التقاليد الإسلامية في المجتمع." هل ترين إذا أن غلق حدود الاتحاد الأوروبي قصد الحد من الهجرة القادمة من المناطق الأخرى، يمكنه أن يؤدي إلى حالة من تزايد مشاعر كراهية الأجانب، أو ما يمكن أن يصنف بالعنصرية الأوروبية؟
ماريا شيشكوفسكا: بالطبع. الاتحاد الأوروبي ليس قويا بعد، ولم يعطى الوقت الكافي للتماسك بشكل جيد. ومع فقد بدأنا نسمع عن الكثير من الطروحات التي تهدده، ككون الأوروبي مثلا إنسانا متفوقا عن غيره من بقية الدول. يجب الحذر كي لا نسقط في فخ هذه النظرة الأوروبية المحورية التي تبدو لي خطيرة.
لا نسمع إلا قليلا عن دور داخل الاتحاد الأوروبي؟
ماريا شيشكوفسكا: بالنظر إلى سلوك المواطنين من مختلف الدول الأوروبية، وتمسكهم بالتقاليد، بالتاريخ، أعتقد أنه يلزم وقت أطول قبل أن تزول كل هذه الاختلافات. كما أعتقد بالمقابل أنه من الضروري أن يسعى الاتحاد الأوروبي إلى الانصهار في دولة واحدة، وانه من المبكر الحديث عن توحيد المناطق.
حركة "أنصار العولمة" تشكل ردة فعل للعولمة الرأسمالية. كيف تنظرين إلى فرص و إمكانيات هذه الحركة؟
ماريا شيشكوفسكا: أتمنى أن تتطور حركة "أنصار العولمة" و تصبح أقوى و أقوى، لأن المنتمين إليها يقبلون بنظرية العولمة و لكنهم يرفضون الطريقة المغالطة التي تسير بها. الأفكار اللامعة للعولمة شيء، كاملطالبة بالوحدة الانسانية، و تحقيق مصالح الدول الكبيرة شيء آخر، سواء فيما يخص صناعة السلاح و الأدوية الصيدلانية و الاتصالات، و ليست هذه القطاعات فقط التي تسعى إلى إخضاع أوروبا و العالم بأسره إلى سيطرتها، بل هذا النوع من العولمة مرفوضة بالنسبة للعديد من المجتمعات. فهي عولمة مغالطة تتجسد أيضا في قطاع الثقافة تحت نمط ثقافة جماعية تأخذ نمطها من الولايات المتحدة. هذه الثقافة تسيء بشكل كبير إلى مستوى التفكير و العقيدة لدى الأوربيين. والمعادون للعولمة هنا لهم الحق في التعبير عن عدم رضاهم من الأساليب المنتهجة في مسيرة العولمة، و هذا عنصر دعم لحركتهم.
كيف بإمكان حركات كتلك أن تعمل بلا تمويل، دون وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الأغنياء و تسيطر عليها بالخصوص الشركات الكبيرة؟ هل تكفي المقاومة الاجتماعية لوحدها؟ و هل بإمكان هذه المقاومة أن تشكل قاعدة لقيادة النضال لأجل تطور الإنسانية؟
ماريا شيشكوفسكا: هذا مشكل كبير.لا يمكن أن نتصور العمل الاجتماعي دون تمويل مالي، يجب توحيد الجهود الإنسانية للذهاب بالاتجاه السليم نحو تنظيم الحركات الاحتجاجية، و هو ما يجعل مسألة السلطة ووسائل الإعلام مسألة حساسة وضرورية. لهذا السبب أنا على يقين أنه يجب أن تنشأ مبادرات يقودها أشخاص بسطاء، ومن الفقراء سعيا منهم لتأسيس إعلام اجتماعي، يمكنه عبرها أن ينشر أفكاره على سبيل المثال. مثل وسائل الإعلام تلك تستطيع أن تلقن المجتمع الكثير من الأشياء في إطار إنساني و قيمي. أما الآن، فمحكوم علينا أن تعمل وسائل إعلام تعمل لمصالح الملاك الأغنياء.
و ما هي فرصة اليسار في أوروبا؟
ماريا شيشكوفسكا: أعتقد أن المستقبل بين أيدي الحركات اليسارية. لكن ينقصهم التنظيم بشكل جيد. مسيرو اليسار، و بالخصوص الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية، هم الأشخاص الداعمون للبرالية الاقتصادية في بولونيا، و هو ما يشكل من البداية تناقضا مع منطلقات اليسار. ينقصنا قادة يسار بمستوى ما نجده في فرنسا و اسبانيا مثلا. أفكر في مسألة الفصل بين الدين و الدولة كما هو الحال في فرنسا، و في التغييرات السريعة، التي أوصلت اليساريين إلى السلطة في اسبانيا. أراقب ما يجري في العالم و أعتقد أنه توجد ثمة أرضية لتجسيد قيم اليسار. ينقص فقط تنظيم جيد لهذه القاعدة في مختلف الدول، و التي تستطيع السماح لهذه الحركات أن تصير حركات قوية. حان الوقت للحد من هيمنة مجموعة تسعى إلى البحث عن مصالحها بتدمير البيئة و الإنسانية.