سؤال يتبادر إلى أذهاننا ونحن نرى أمريكا تغوص تدريجياً وبشدة في المستنقع الذي صنعته بنفسها في العراق، والسؤال هو: ماذا يمكن أن تفعل أمريكا بالعراق قبل أن تجبر على الخروج منه نتيجة ضربات المقاومة الباسلة وفشلها في الإستمرار بإحتلاله بعدما عانته قواتها من خسائر مادية وبشرية كبيرة؟
مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة نجحت في إحتلال العراق بسرعة، ولكنها بالتأكيد لم تنجح في إستمرار إحتلالها له بالشكل الذي خططت له. وكذلك نجحت الإدارة الأمريكية ـ الصهيونية، على الأقل ظاهرياً لحد الآن، في تقسيم شعب العراق طائفياً وعرقياً، وذلك من خلال ما تمارسه الأجهزة الإعلامية المرتبطة بالصهيونية العالمية واليمين المتطرف الأمريكي من تفعيل لفكرة الطائفية والإثنية في العراق، يساعدها في ذلك إسرائيل وإيران وعملائهم في العراق. وكما نعلم فإن ذلك قد تم التخطيط له قبل فترة طويلة من الغزو والإحتلال، وقد عبر مؤتمر لندن سئ الصيت الذي رعاه زلماي خليل زاده عن هذا التوجه بشكل واضح وصريح. وما نراه على الأرض منذ إحتلال العراق وحتى الآن هو خير دليل على ذلك، بل أن فكرة تقسيم العراق تعتبر بدايتها الحقيقية منذ قيام الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها بإنشاء ما سمي في حينه بمناطق منع الطيران، حين فصلوا شمال العراق بعد حرب الخليج الأولى في عام 1991 عن السلطة المركزية العراقية.
وها نحن نرى الآن المرحلة الأخيرة للمخطط الأمريكي الصهيوني لتفتيت العراق جغرافياً من خلال دستور مسخ وضع لبنته الأساسية صهيوني معروف، وسبق إعتماده وإقراره دعوات مستمرة من ذيول أمريكا والصهيونية وإيران في العراق من الذين توجههم دوائر القرار الصهيونية والأمريكية والإيرانية ويتمتعون بالأغلبية فيما يسمى بالجمعية الوطنية، وحيث الكثير منهم مدعوم أيضاً من الحوزة الصفوية الشيعية التي تسيطر، مع الأسف، على مشاعر الكثير من أبناء شعبنا.
كلنا نذكر أن الحديث عن تقسيم العراق لم يكن وليد الساعة، بل بدأ منذ سنوات عدة، ومن أوائل من بدأ بتعميم تلك الفكرة هم الصهاينة، حيث كان ما ذكره وزير الخارجية الأمريكية السابق الصهيوني هنري كيسنجر حول ضرورة تقسيم العراق يمثل أنصع مثال على التدخل المباشر للصهيونية العالمية والداعمين لها من اليمين الأمريكي في هذا الموضوع.
كما تبعت تصريحات الصهاينة من اليمين المتطرف الأمريكي حول تقسيم العراق دعوات مماثلة من قبل مستشارين في الإدارة الأمريكية ممن يشاركون في وضع ستراتيجات أمريكا العسكرية والسياسية. فقد دلتنا التجارب الخاصة بالسياسة الأمريكية في العقود القليلة الماضية أنه حين تكون الإدارة الأمريكية قد قررت المضي فيما نصحها به مستشاروها، تبدأ علامات ما ستقوم الولايات المتحدة بالظهور على سطح الأحداث، وبشكل خاص في وسائل الإعلام الصهيونية المرتبطة باليمين الفاشي الأمريكي، وهذا ما حدث بالضبط حين بدأت دعوات تقسيم العراق بالظهور علناً. وبمتابعتنا لما كتبه الإعلام الصهيوني الأمريكي مؤخراً، وجدنا الكثير منه حول هذا الموضوع، وكان أبرز ما نشر عن تقسيم العراق في الآونة الأخيرة هما مقالين جديرين بالتوقف عندهما. أولهما كتبه «جون يو»، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا ـ بيركلي والباحث في منظمة اليمين المتطرف الإجرامية المعروفة بإسم American Enterprise Institute، في صحيفة «لوس أنجيليس تايمز» إقترح فيه تقسيم العراق إلى ثلاثة مناطق/أقاليم. علماً بأن «جون يو» هذا هو نفسه من إقترح على الإدارة الأمريكية مسبقاً بذر الشقاق بين فصائل المقاومة الوطنية العراقية من خلال إنشاء فصائل مقاومة وهمية تقوم بأعمال إجرامية بحق المواطنين العراقيين الآمنين الهدف منها تقليص الدعم الشعبي الواسع للعمليات البطولية التي تقوم بها المقاومة ضد قوات الإحتلال والقوات الأمنية للسلطة العميلة التي نصبوها في العراق. وما شاهدناه على الأرض بهذا الخصوص، وبالذات في الأشهر القليلة الماضية كان خير دليل على ما كان «جون يو» قد إقترحه على الإدارة الأمريكية.
والمقال المهم الثاني هو ما كتبه رجل القانون الأمريكي «ألان توبول» في نفس الأسبوع الذي نشر فيه «جون يو» مقاله عن تقسيم العراق. و«توبول» هذا عمل هو الآخر على مدى أربعين عاماً مستشاراً للإدارات الأمريكية ومنها إدارة بوش الحالية، حيث يعتبر واحداً من كبار منظري الستراتيجية العسكرية والسياسية لليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية. وقد كان ما كتبه «توبول» مؤخراً في موقع Military.com الخاص بالجيش الأمريكي هو دعوة الإدارة الأمريكية إلى تقسيم العراق تماماً بنفس الأفكار والأسلوب التي دعى إليها «جون يو».
فعلى سبيل المثال، ذكر كلا الكاتبان بالتوافق، أو بالصدفة (لنسمها ما شئنا) أنه بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 كانت هناك 74 دولة مستقلة فقط، في حين أن عدد الدول المستقلة الآن هو 193 دولة !!! وهنا حاول هذان الكاتبان توجيه الأنظار إلى أن زيادة هذا العدد من الدول المستقلة !!! إلى 196 دولة سيكون حقيقة واقعة بعد تفتيت العراق إلى ثلاث دويلات. كما ذكرا وبكل وقاحة الدور الأمريكي بتفتيت الإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وعدد من دول أوربا الشرقية الأخرى مثل تشيكوسلوفاكيا (التي نتج عن تفتيها جمهوريتين تحملان الآن إسمي التشيك وسلوفاكيا)، على سبيل المثال. وينتهي كاتبا المقالين بالإعتراف أن أمريكا تسعى الآن وبكل قوتها إلى تفتيت العراق.
إن مخطط تقسيم العراق يتعلق بشكل أساسي من أجل توفير النفط للولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل. فقد كان وزير الخارجية الأمريكي الصهيوني هنري كيسينجر، هو صاحب فكرة نقل النفط من العراق إلى الغرب وإلى إسرائيل بالذات. ففي عام 1975، وقع كيسينجر مذكرة تفاهم مع إسرائيل تضمن الولايات المتحدة الأمريكية بموجبها لإسرائيل إحتياطي من النفط ومصدراً للطاقة في وقت الأزمات. ويتم تجديد المذكرة في هدوء كل خمسة أعوام، مع تشريع خاص مرفق بها تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بموجبه توفير إحتياطي ستراتيجي من النفط لإسرائيل، حتى إذا ما إستتبع ذلك نقص داخلي في النفط، كلف دافعي الضرائب الأمريكان ثلاثة مليارات من الدولارات في عام 2002 .
لقد كان من الواضح لأغلب المحللين منذ أوائل عام 2000، أن الإقتصاد والعمالة الأمريكية في حالة تدهور مستمرة، الأمر الذي سيقود الولايات المتحدة الأمريكية إلى كساد يؤدي بالتالي إلى خطورة لا يمكن تصورها على النظام الرأسمالي الأمريكي. وحيث أننا نعلم أن الكيان الصهيوني هو كيان طفيلي، إذ أنه يعتمد كلياً على التمويل الأمريكي الضخم لكي يستمر، فإذا ما توقف هذا التمويل سواء عمداً أو بصورة غير مقصودة، فإن إسرائيل سوف تنهار وتنتهي في غضون فترة قصيرة. لهذا ماذا يمكن أن تفعل إسرائيل الطفيلية عندما يبدو على معيلها (أمريكا) أنها تفقد مواردها المالية التي تعتمد عليها إسرائيل لضمان إستمرارها؟ إن معظم الطفيليات عادة ما تبحث عن معيل جديد وهو ما يعد مهمة مستحيلة لإسرائيل، فليست هناك دولة أخرى في العالم تستطيع تحقيق عائدات تكفي جشع وفساد تل أبيب.
وبهذا يبدو بوضوح أن إحتلال العراق وبالتالي تقسيمه لم يكن إلا من أجل مصلحة إسرائيل لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير و«إسرائل الكبرى». وهكذا كانت الأهداف الأساسية للإحتلال هي «تقطيع» العراق، والقضاء على كيانه ودولته وتدميره تماماً. ولكن طريقة التفتيت هذه تختلف عن سابقاتها التي ساعدت عليها الإدارات الأمريكية في مناطق أخرى من العالم. فقد إخترع الأمريكان والصهاينة للعراق طريقاً آخر مختلفاً عما سبق وأن مارسته أمريكا والصهيونية العالمية ألا وهو بواسطة ما يسموه بـ «الدستور والفيدرالية». فالأول سيعطي الأمريكان والصهاينة حق نهب العراق الذي سيتم تشكليه من ثلاثة دويلات هزيلة وربطها بعجلة المصالح الأمريكية الإستعمارية زائداً الوجود العسكري الدائم؛ والثاني سيفتت العراق بشكل قانوني «دستوري» داخلي فرضوه على عملائهم في السلطة القائمة الآن. وقد رأينا وسمعنا كيف أن الإدارة الأمريكية وعلى رأسها بوش إستعجلوا إقرار مسودة «الدستور» التقسيمي الذي يأملون أنه سيمضي بهم لتنفيذ مخططهم المرسوم لتفتيت العراق. وإضافة إلى الخطة الأمريكية الصهيونية هناك التأثير المباشر لإيران على الأطراف التي تستحوذ على السلطة اليوم في العراق، وتعاون إيران مع الإدارة الأمريكية من أجل تحقيق تلك الأهداف القذرة لما لها من مصلحة ستراتيجية في تقسيم العراق أيضاً. كما ليس غريباً أن تصرح مصادر في وزارة الخارجية الأمريكية بشكل علني بأن وضع إتفاقية سلام بين العراق وإسرائيل سيكون «على قمة جدول أعمال» الحكومة العراقية الجديدة بعد الإنتهاء من «مسرحية» الإستفتاء على «الدستور».
إن شعبنا العراقي الأبي واثق بأن أمريكا بكل جبروتها وقوتها العسكرية، وإيران بكل خبثتها ودسائسها سوف لن يستطيعوا بالتأكيد النيل من وحدة العراق وشعبه، ولو عاد هؤلاء لقراءة التأريخ لوجدوا أن العراق وشعبه قد مرا بأهوال إحتلال وتمزيق ومعاناة لم يشهد مثلها وطن وشعب، وقد خرج بعدها العراق وشعبه قوياً موحداً.