عند الأميركيين والبريطانيين عبارة «سحابة ذات غلاف فضي»، القصد منها أنه حتى الحدث المكروه قد يحمل في طياته إيجابيات. وفي صلب ثقافتنا الدينية، قوله تعالى: «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم» (سورة البقرة ـ 216)، والمعنى واضح.
يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001، كما هو معلوم، تعرضت الولايات المتحدة لأسوأ اعتداء تتعرض له في أيام السلم، قضى فيها نحو 3 آلاف شخص، السواد الأعظم منهم مدنيون أبرياء. يومها على الصعيد السياسي برز لفترة قصيرة اتجاهان: الأول راديكالي متشدد، يدعو إلى استغلال الاعتداء لتغيير خريطة العالم. يقابله رأي آخر ـ اعتبره الراديكاليون انهزامياً ـ يدعو إلى إيجاد إجابات حقيقية للسؤال العفوي البسيط الذي ارتسم على شفاه ملايين الأميركيين «لماذا يكرهوننا؟!».
الراديكاليون كسبوا الجولة، عندما قرر أهل السلطة في واشنطن حمل الحرب إلى كل من قررت أنه خصم. أما الداعون إلى مراجعة هادئة للسياسة الخارجية الأميركية، فاستسلموا للأمر الواقع وانكفأوا إلى جحور الصمت خوفاً من التخوين.. إلى حين. وبالنتيجة احتلت الولايات المتحدة أفغانستان ثم العراق، وأخذت تفرض «التغيير» في كل مكان لم تر حاجة ملحة لخيار الاحتلال فيه، فانصاع الكبير والصغير، الحليف والعدو، لما بدا اوامر لا تناقش ولا ترد.
ولأول مرة منذ انهيار «الكتلة السوفياتية» عام 1989، ظهر «النظام العالمي (الأحادي) الجديد» بكل تجلياته. وتكرّر استهزاء «البيت الأبيض» بالمسألة البيئية، رافضاً أي بحث بـ «شرعة كيوتو»، وأصر مدعوماً بـ «اللوبي الأصولي المسيحي»، على معارضة أبحاث العلاجات الجينية. كذلك وسعت دائرة الهيمنة على مقدرات القرار الدولي عبر خطوتين بالغتي التأثير على العالم، تمثلتا بتعيين بول وولفويتز (أحد كبار صقور «المحافظين الجدد»)، رئيساً للبنك الدولي، وتمرير تعيين جون بولتون (ابن المدرسة الفكرية ذاتها)، بالرغم من أنف الكونغرس، مندوباً دائماً لواشنطن في الأمم المتحدة، وهو الرجل الذي يحتقر الهيئة الدولية ويكره الحوار ويمج التفاهم والتعددية والديمقراطية. وكانت النتيجة أنه حتى في أوروبا، ما زالت نسبة معارضي سياسات الرئيس الاميركي جورج بوش الخارجية في حدود 72%، وفقاً لاستطلاع «صندوق مارشال الألماني» (نشرت نتائجه الاربعاء الماضي).
في هذه الأثناء، بينما كان مفكرو العالم ينظرون بقلق إلى هذا النهج، عكف مفكرو أميركا على إحصاء ضحاياه في الداخل.
لقد رأوا بأم العين مدى احتقار النخبة «الجمهورية» ـ المتحالفة مع ديماغوجيي اليمين الفاشي والإعلام المحتكر (بفتح الكاف) ومشعوذي وأصوليي اليمين التوراتي ـ للفقراء والمسنين وأصحاب الحاجات الخاصة والأقليات الهامشية، وعدائها الفظيع لبرامج الرعاية الاجتماعية وقطاعات الصحة والتعليم والمثقفين والحقوق المدنية والحريات العامة، وتابعوا الإلغاء المتعمد لفصل السلطات بتسريع «البيت الأبيض» التعيينات «الآيديولوجية» في الحكمة العليا، ورصدوا انقسام اميركا إلى قسمين عبّرت عنهما أفضل تعبير الانتخابات الرئاسية الأخيرة، عندما كسب الديمقراطيون «ولايات الأطراف» الليبرالية التي تلامس العالم الخارجي وتتفاعل معه، بينما صبت ولايات القلب المحافظة أصواتها لمصلحة الجمهوريين.
إنها خريطة مفزعة.. مفزعة حقاً. لكن في أواخر أغسطس (آب) الماضي، جاء رصد من نوع آخر. إذ نبهت مؤسسات الارصاد الجوية المتخصصة إلى إعصار قوي يتجه بسرعة في خليج المكسيك باتجاه دلتا نهر الميسيسيبي، وتأكدت خطورة الإعصار كلما ازداد اقتراباً من الدلتا. ويوم 29 اغسطس، ضرب الإعصار «كاترينا» ضربته مجتاحاً عدة مدن ساحلية في ولايتي لويزيانا وميسيسيبي، بينها نيو أورليانز «درة» الجنوب والعاصمة التاريخية الثقافية لـ «أميركا الفرنسية».
ما حدث في نيو أورليانز بالذات، يصوّر تماماً «أميركا جورج بوش» اليوم. فهي مدينة جنوبية نجح أغنياؤها وأبناء طبقتها المتوسطة (معظمهم من البيض)، من مغادرتها بسياراتهم «قبل الطوفان»، بينما تقطعت السبل بفقرائها (معظمهم من السود)، فتشردوا وغرق منهم المئات وربما الآلاف. وهي مدينة بني العديد من احيائها دون مستوى سطح البحر، وبالتالي كانت مهددة على الدوام بعوامل الطبيعة.. أي العوامل التي يرفض بوش الاعتراف بها في حربه المفتوحة ضد «كيوتو». وهي مدينة ـ ومثلها مدن ساحلية أخرى ـ تحتاج إلى دعم حكومي مستمر لصيانة بناها التحتية ودفاعاتها المائية، لكن آيديولوجية الحزب الجمهوري، لا ترى ضرورة لمشاريع ذات نفع عام، لا سيما إذا كان السود الفقراء على رأس المستفيدين منها.
إعصار «كاترينا»، مثل اعتداءات 11 سبتمبر من قبله، قد يثير قضايا مصيرية تمس علاقة أميركا مع نفسها. فهل تهرب مجدداً إلى الأمام كما فعلت بعد 11 سبتمبر؟ أم تبدأ تفكيراً عاقلاً معمقاً بخطورة المفاهيم التي تعتنقها النخبة الحاكمة وتفرضها عليها وعلى العالم؟.
هل يأتي إنقاذ العالم على يدي «كاترينا»؟..