تعني إعادة انتخاب الرئيس المصري حسني مبارك, لولاية رئاسية خامسة, في السابع من شهر سبتمبر الجاري, أن رموز نظامه من كبار الجنرالات, وعناصر الحرس القديم, وإدارييه "المحافظين", من المستثمرين وأرباب الأعمال, لم يجدوا بديلاً, في الوقت الحالي على الأقل. ولما كان جميع هؤلاء في غاية الحرص والقلق على مصالحهم, فإنهم لم يغامروا باتخاذ خطوة واحدة نحو تغيير سياسي غير مأمون الجانب. وخلال العام أو العامين الماضيين, سرت شائعات قوية, بأن ابنه جمال, رجل الأعمال الناجح, والنجم السياسي اللامع في الحزب "الوطني الديمقراطي" الحاكم, البالغ من العمر 41 عاماً، قد يحل محله. يذكر أن الحزب الحاكم يحوز على نسبة 85 في المئة من المقاعد البرلمانية في مصر.
غير أن الذي حدث هو أن ثارت مخاوف وحفيظة حرس النظام القديم, من أن يؤدي صعود جمال إلى مقاليد الحكم في البلاد, مصحوباً بطاقمه من التكنوقراط والإداريين الشباب, إلى زحزحة عناصر الحرس القديم من مواقع السيطرة التقليدية على السلطة, ومن ثم حرمانها من امتيازاتها التاريخية التي تمتعت بها. ولذلك فقد كان طبيعياً أن تميل هذه العناصر إلى تفضيل استمرار حسني مبارك.
كما وصف جمال بافتقاره إلى الخلفية العسكرية, وكذلك افتقاره للدعم والسند اللازمين له من قبل قوات الجيش والأمن الوطنيين, حتى يضمن خلافة قوية ومأمونة لوالده في مقاليد الحكم. ولعلنا في غني عن التفصيل في الحديث عن الدور الحاسم الذي يلعبه الجيش في استقرار الحياة السياسية في مصر, بصفته صمام الأمان الوحيد لهذا الاستقرار. ولنا أن نذكر أن حكام مصر الثلاثة, الذين تعاقبوا خلال نصف القرن الماضي كله– جمال عبد الناصر, وأنور السادات, وحسني مبارك نفسه- قد صعدوا إلى السلطة عبر المؤسسة العسكرية.
وهناك مرشح رئاسي آخر هو اللواء عمر سليمان, مدير المخابرات العامة, الذي لمع نجمه خلال السنوات الماضية, جراء المساعي التي بذلها في إبرام اتفاق تفاهم بين كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية, والجماعات الفلسطينية الأكثر تشدداً وتطرفاً. غير أن الحقيقة تبقى, أن هذا المرشح من شخصيات الظل, وأنه لا يصلح لتولي الأدوار في المنصة الرئيسية للمسرح السياسي في مصر. يذكر أن الرئيس الحالي حسني مبارك – البالغ من العمر 77 عاماً والذي حكم مصر على مدى 24 سنة ممتدة منذ اغتيال سلفه أنور السادات في عام 1981- قد حصل على نسبة 88.6 في المئة من جملة أصوات الناخبين, في حملة التصويت التي أجريت في السابع من شهر سبتمبر الجاري. ولكن المثير للدهشة والغرابة في الوقت ذاته, أن نسبة 23 في المئة فحسب, من جملة الـ 32 مليون مصري الذين سجلوا أسماءهم للحملة الانتخابية, هي التي أبدت اهتماماً بالتوجه إلى صناديق الاقتراع, والإدلاء بأصواتها. ولما نضع في الاعتبار أن هذا هو العدد الذي اهتم بمجريات ونتائج العملية الانتخابية في بلد يزيد عدد سكانه على 72 مليون نسمة, فعندها سندرك عمق اللامبالاة الانتخابية من قبل الجمهور, والاعتقاد المسبق لديه, بأن نتيجة هذه الانتخابات مقررة سلفاًَ, سواء ذهب الناخبون إلى صناديق الاقتراع أم لم يذهبوا!
لكن على رغم ذلك, فقد حظيت هذه الانتخابات الأخيرة بالتقريظ السياسي, ووصفت بأنها تاريخية, لكونها المرة الأولى التي يشهد فيها انتخاب الرئيس, جدلاً سياسياً واسع النطاق, ولكونها المرة الأولى التي ينفذ فيها نظام الاقتراع السري, علاوة على ما شهدته من تنافس انتخابي حاد على المنصب الرئاسي, جرى فيه اختيار الرئيس حسني مبارك بين عشرة مرشحين آخرين. قياساً إلى ذلك, يذكر أنه كان يتم اختيار مرشح رئاسي واحد فحسب, في الحملات الانتخابية السابقة, شريطة أن تتم المصادقة عليه, بموجب استفتاء شعبي عام. ولا يفوتنا أن نذكر هنا, أن الرئيس حسني مبارك, قد حافظ على منصبه الرئاسي, بهذا الإجراء الأخير نفسه, خلال ولاياته الأربع السابقة.
إلى ذلك كله, تعد هذه هي المرة الأولى التي يعلو فيها صوت المعارضة السياسية – على رغم صغرها ومحدودية أثرها- ويلحظ لها نشاط واضح, إلى جانب الحرية النسبية التي تمتعت بها الصحافة, خلال المعركة الانتخابية الأخيرة. وبالطبع فإن هذه الحرية لا تنفي أن الرئيس مبارك قد كان له نصيب الأسد, من تغطية إعلامية انتخابية, لمعركة قصيرة جداً, لم تزد جولتها على 9 أيام فحسب. وبسبب قصر الجولة الانتخابية هذه, فقد كان متعذراً على منافسيه, أن يبرزوا في ساحة المنافسة والنزال الانتخابي, وأن يتعرف عليهم جمهور الناخبين, دعك من أن يتمكنوا من إقناعه ونيل ثقته ببرامجهم ومواقفهم الانتخابية. يشار في هذا إلى أن جماعة "الإخوان المسلمين" وهي الحركة الإسلامية الرئيسية في مصر, ذات النفوذ والحضور السياسي الواسع في المدارس والجامعات والاتحادات والنقابات المهنية, كانت هي الأكثر ترشيحاً للعب دور سياسي فاعل ومؤثر في الحياة السياسية المصرية, فيما لو سُمح لها بالتنافس الانتخابي, بصفتها حزباً سياسياً هناك. ولكن المعلوم أنه تم حظر هذه الجماعة رسمياً, بموجب قرار حكومي, شمل كافة الأحزاب السياسية, القائمة على أساس ديني.
ولكن لا تزال المحاولات والمساعي جارية لتشكيل حركة سياسية مركزية, هي حزب "الوسط" الذي يتوقع له أن يحظى بدعم الإسلاميين المعتدلين, وكذلك بدعم حركة "كفاية" التي تمكنت من تنظيم تظاهرات وحركة احتجاج قوية, ضد نظام الرئيس حسني مبارك مؤخراً. وفيما لو حظي "حزب الوسط" هذا, بالاعتراف القانوني, فإنه ليس مستبعداً له أن يظهر قوته وعضلاته السياسية, خلال الانتخابات التشريعية المرتقبة في شهر نوفمبر المقبل.
وينطبق الأمر نفسه على شخصيتين سياسيتين, برزا مؤخراً في الساحة السياسية المصرية, واستطاعا منازلة الرئيس مبارك وحدهما, واستقطبا قدراً لا يستهان به من الاهتمام الانتخابي في الجولة الرئاسية الأخيرة. هاتان الشخصيتان هما أيمن نور– وهو محام شاب ومؤسس وقائد لحزب "الغد", ونعمان جمعة, قائد حزب "الوفد الجديد", الذي ورث "حزب الوفد" السابق, باعتباره الحركة السياسية الرئيسية في البلاد, إبان فترة التحرر الوطني. يشار إلى أن أيمن نور الذي حصل على نسبة 7.5 في المئة من الأصوات الانتخابية الرئاسية, قد حرك سكون الواقع السياسي المصري, بنقده اللاذع الصريح للرئيس حسني مبارك, وكذلك بسبب تناوله للقضايا الأكثر مساساً بعصب الحياة, مثل ظاهرة الفساد الحكومي, وتفشي البطالة ونقص الوظائف, والسجناء السياسيين, وحقوق المرأة, وعجز الكثير من الشباب المصريين عن سداد تكلفة ومصروفات الزواج. وعليه فلم يمكن مستغرباًَ أن يعقد بعض المحللين والمعلقين السياسيين, مقارنة بين أيمن نور وجمال مبارك, عندما يخوض هذان المتنافسان حملة انتخابية رئاسية, خلال مدة يقدر لها ست سنوات مقبلة.
على أن هناك سبباً آخر يفسر إيثار المؤسسة السياسية التقليدية في مصر, لعدم المغامرة بالتغيير السياسي واختيار خلف بديل لحسني مبارك. ويكمن هذا السبب في المخاطر الجمة المحدقة بالمنطقة العربية بأسرها في الوقت الحالي. فما من أحد يدري على سبيل المثال, متى وكيف ستتمكن الولايات المتحدة الأميركية, من إيجاد مخرج لها من ورطتها السياسية العسكرية المستفحلة في العراق. كما أن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة, لم يسفر هو الآخر عن أية آفاق تسوية سلمية للنزاع بين الجانبين. ثم هناك التوترات على الجبهة السورية اللبنانية, على خلفية التحقيق حول مصرع الحريري في الرابع عشر من شهر فبراير الماضي.