"هنالك بؤرة ضوء بدأت تومض في نفق أزمة دارفور المظلم". بهذه العبارة التشجيعية، لخص وزير الخارجية الفرنسي الجديد، برنار كوشنر، مداولات الاجتماع الدولي رفيع المستوى، الذي عقد في باريس في 25 من يونيو المنصرم، وهو الاجتماع الذي كرس بكامله للتباحث حول الحلول الممكنة لأزمة إقليم دارفور. وقد حضرت الاجتماع المذكور، كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية، و"بان كي مون"، الأمين العام للأمم المتحدة، وعمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، فضلاً عن سفراء وممثلين لسبع عشرة دولة من شتى أنحاء العالم، بما في ذلك روسيا والصين. ومما يؤسف له حقاً، غياب كل من السودان والاتحاد الإفريقي من الاجتماع. وللفت النظر إلى حجم المشكلة، فلنتذكر أن نحو 200 ألف من مواطني الإقليم لقوا حتفهم منذ اندلاع النزاع المسلح هناك في عام 2003، بينما أصبح في عداد النازحين والفارين من بيوتهم وقراهم جراء النزاع، حوالى 2.3 مليون آخرين.
ووفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة، فقد فر 233 ألفاً من لاجئي الإقليم عبر الحدود الغربية المشتركة بين دارفور والجارة تشاد، هرباً من هجمات مليشيات الجنجويد عليهم، مع العلم بأنها المليشيات التي تتهم حكومة الخرطوم بتمويلها وتسليحها. ومن الأفعال الإجرامية التي ارتكبتها تلك المليشيات: إحراق القرى والبيوت، وكذلك اغتصاب النساء، وشن غارات عدوانية واسعة على المدنيين من سكان الإقليم. وفيما يقال، فقد استعانت الخرطوم بهذه المليشيات، بهدف قطع الإمدادات والمؤن عن الجماعات المتمردة المناوئة لها في الإقليم، التي يزعم أنها تحظى بدعم الجارة تشاد.
وفي الوقت ذاته، فقد فر نحو 172 ألف مواطن تشادي من قراهم، هرباً من المعارك والنزاعات المسلحة التي شملت المناطق الواقعة على الشريط الحدودي الفاصل بين تشاد والجزء الغربي من السودان. بقي أن نقول إن هؤلاء اللاجئين يزاحمون السكان المحليين ويشاركونهم حياة البؤس والمعاناة، في ظروف تعيش فيها أغلبيتهم تحت حد الفقر.
وليس من بصيص أمل وحيد لحل هذه الأزمة يلوح قريباً، سوى ذلك الاجتماع الدولي الرفيع المستوى الذي عقد في العاصمة الفرنسية باريس. وفي المنحى نفسه، كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، قد تحدث هاتفياً إلى جوردون براون، مهنئاً إياه على تنصيبه رئيساً لوزراء بلاده، وقد اتفقا معاً على أن دارفور توفر لهما فرصة ثمينة للتعاون والعمل معاً من أجل حل الأزمة سوياً.
وهناك مؤشرات تدعو للتفاؤل بإمكانية إحراز تقدم في هذا الاتجاه. فإثر اجتماع مشترك بين وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنر، والرئيس التشادي إدريس ديبي، في 10 يونيو المنصرم، وافق الأخير على نشر قوات دولية في حدود بلاده الشرقية، بهدف حفظ الأمن والاستقرار في ذلك الجزء من تشاد. وبعد يومين من ذلك التاريخ، أي في 12 من الشهر نفسه، أعلن الرئيس السوداني عمر البشير، موافقته المبدئية على نشر قوة "هجينة" لحفظ السلام في دارفور، قوامها 20 ألف جندي من القوات التابعة لكل من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي. غير أنه لم يتم التوصل بعد إلى أي اتفاق حول الجهة التي ستتكفل بتمويل وإمداد هذه القوة.
ومع ذلك فإن الذي يبدو للعيان، أن كافة الأطراف المشاركة في دراما دارفور المأساوية: حكومتا تشاد والسودان، وكذلك الجماعات المتمردة في كلتا الدولتين، قد لاحظت تصاعد وتائر القلق والاهتمام الدولي بما يجري في الإقليم، وبدأت جميعها في تعديل مواقفها وسياساتها، بما يتفق والاستجابة لذلك الاهتمام الدولي.
ولهذا فإنه ليس من قبيل المصادفة أن يتوقع إجراء ثلاث مفاوضات في هذا الصدد، بل أن تكون هذه المفاوضات والتفاهمات قد بدأت بالفعل. وأولى تلك المفاوضات والتفاهمات توقع زيارة الرئيس التشادي إدريس ديبي للخرطوم قريباً، وذلك للتباحث مع نظيره السوداني، عمر البشير، حول إمكانية تعهد بلديهما بالكف عن دعم العناصر المتمردة في كلتا الدولتين الجارتين. والثانية، يحاول جان إلياسون، مبعوث الأمم المتحدة لإقليم دارفور، الجمع بين حكومة الخرطوم والأطراف المتمردة في الإقليم، لإجراء مفاوضات تسوية سلمية للنزاع فيما بينهما. والثالثة توقع زيارة وفد حكومي تشادي للعاصمة الليبية طرابلس، بهدف إجراء محادثات مشتركة مع الأطراف التشادية المتمردة، بوساطة ليبية. إلى ذلك ربما ترغم الخرطوم، تحت وطأة شدة العقوبات المالية والتجارية المفروضة عليها من قبل واشنطن، إلى الاعتراف بأنه قد حان الوقت لشد الحبل على مليشيات الجنجويد. غير أن الخرطوم لا تزال ترفض أي تدخل أجنبي في شؤونها الداخلية، وتدعي أن لها مطلق الحق السيادي، في التصرف كما تشاء، داخل حدود بلادها.
وخلافاً لسياسات واشنطن، لا تزال الدول الأوروبية على قناعتها بفاعلية وجدوى التسوية السلمية بين طرفي النزاع في الإقليم -الحكومة والعناصر المتمردة- بحيث يقدم كل منهما ما تقتضيه التسوية من تنازلات للطرف الآخر، بدلاً من أسلوب تشديد العقوبات على السودان.
وفي غضون ذلك فقد بدأ طائرات النقل التابعة لسلاح الجو الفرنسي، بنقل المؤن والمساعدات الإنسانية من العاصمة التشادية أنجامينا، إلى مخيمات النازحين واللاجئين الواقعة على بعد حوالى 750 كيلومتراً شرقي البلاد، بقرب الشريط الحدودي المشترك مع غربي السودان. غير أنه يتعين إكمال نقل المؤن هذه بأسرع ما يمكن، قبل أن يصبح من المستحيل نقلها براً، بسبب المصاعب الكبيرة التي يسببها موسم الخريف لحركة النقل في تلك المناطق.
وفي سبيل الفهم العميق لما يجري في إقليم دارفور، فإنه يلزم الأخذ في الاعتبار بعاملين إضافيين. أولهما أن عائدات النفط السوداني، قد منحت الخرطوم قدراً أكبر من الثقة والقدرة على مناهضة الضغوط الخارجية التي تمارس عليها. وتبلغ إنتاجية النفط السوداني، نحو 480 ألف برميل يومياً، بينما يبلغ حجم الاحتياطيات 1.6 مليار برميل. وبالنتيجة، فقد ارتفع إجمالي الناتج القومي المحلي، إلى ثلاثة أمثال ما كان عليه، خلال السنوات السبع الماضية، وأصبح السودان، إحدى أسرع الدول الإفريقية نمواً، بينما تقارب كثافته السكانية، الـ40 مليون نسمة، بمعدل زيادة سنوية مقدارها 2.6 في المئة. وبما أن الصين تعد المشتري الرئيسي لمنتجات النفط هذه، إذ تبلغ نسبة مشترياتها منه 80 في المئة من إجمالي الناتج النفطي، فإنه ليس مستغرباً ألا تنضم الصين إلى صف واشنطن الساعية لفرض المزيد من العقوبات على الخرطوم.
أما العامل الثاني الذي يجب فهمه، فهو تأثير التغير المناخي، الذي عانى منه إقليم دارفور كثيراً. فقد ازدادت ظاهرة التصحر هناك بدرجة كبيرة، نتيجة للنقص الحاد في هطول الأمطار، ما ترتب عليه احتدام التنافس على مصادر المياه والمراعي بين القبائل والمجموعات العرقية في الإقليم. ولذلك فإن الأزمة ليست ذات طابع سياسي فحسب، وإنما لها عواملها الاقتصادية البيئية أيضاً، وهي ما يجب أخذه بعين الاعتبار.