كان هذا الأسبوع الأيلولي، صيف 1982، حافلاً: اغتيال بشير الجميل، دخول القوات الإسرائيلية بيروت، مجازر صبرا وشاتيلا، إطلاق <<جبهة المقاومة اللبنانية>>... إلخ.
تُستعاد هذه الوقائع في 2005 في ظل المعطيات الجديدة التي يعيشها لبنان. وتشكّل هذه الاستعادة مرآة يمكن أن نقرأ فيها رؤية القوى السياسية لما استقر عليه الوضع. إن في التعاطي مع هذا الماضي القريب الكثير مما يُراد قوله في الشأن اللبناني الداخلي، لا بل في المستقبل المرتجى للبنان.
ولقد اختار حزب <<حراس الأرز>> يوم أمس الأول، وهو قريب جداً من ذكرى هذه الأيام المتدافعة، ليعلن عودته إلى النشاط العلني، وليعيد تدوير أفكاره وبرنامجه وأطروحاته السابقة الصالحة، في رأيه، لهذا الزمان ولهذا المكان.
يبدو من الإطلالة الإعلامية الرسمية ل<<الحراس>> أننا أمام مجموعة من الشبان والشابات تقول كلاماً صوفياً، متطرفاً، قاطعاً، يقينياً. ومن دون الدخول في أي سجال مع الحزب العائد لا بد من الإشارة إلى أن هذا المزيج من الوطنية المتعالية والنابذة للغريب، ومن الحدة شبه العنصرية، ومن العداء لنوع من الرأسمالية، وللأفكار اليسارية، ومن هذا التجريح بالفئات الحاكمة، ان هذا المزيج لا يعدو كونه استعارة من الإيديولوجيات الفاشية والنازية. إلا أن هبوط هذا المزيج على الحالة اللبنانية العيانية يجعله عاجزاً عن النطق باسم <<أمة>>، ما يُفقده ميزة
ينسبها إلى نفسه، ويضعه، حكماً، في صف دون آخر، لا بل في مواجهة مع الآخر.
في الإمكان التغاضي، بسهولة، عن هذه الأقلية ذات المعتقدات الجامحة. لا بل يمكن الزعم أن لها مكاناً في لبنان الذي يضج بما ومن يوازيها غرابة وإثارة للفضول. فكل جماعة لبنانية تجد، عند أقصاها، حفنة من المأخوذين بنظريات قصوى مع فارق، ربما، هو أننا نشهد، في بعض الحالات، محاولات تبرؤ من الشطط.
إن المهم، عند النظر في عودة <<حراس الأرز>>، هو تبيان ما إذا كان هذا الظهور المستعاد يعبّر، أم لا، عن تحوّل عميق في المناخ السياسي والإيديولوجي العام، وعن تموضع تقدم عليه قوى مركزية ومؤثرة في بيئاتها. بكلام آخر، إن الأنظار يجب أن ترنو إلى ما وراء <<الحراس>> للتساؤل عما إذا كان أعيد تخصيب التربة اللبنانية من أجل أن تستقبل هذه الأفكار، أو تتحالف معها، أو تنسج معها علاقات، أو تجد في ما بينها وشائج ما، وصلات وصل محتملة.
إن الميل هو إلى الجواب بالإيجاب. نعم، إن لبنان يتجه منذ فترة نحو حالة تجعله أكثر تقبلاً لمثل هذه الشعارات. ولأن الوضع كذلك فالأمر يستحق الاهتمام. إن <<الحراس>> يقولون بصوت عال ما تضمره قوى سياسية نافذة. وثمة قوى سياسية أخرى، نافذة أيضاً، وجدت نفسها، أو أوجدت نفسها، في موقع المجرّد من سلاح السجال مع هذه الميول.
إن قوى 14 آذار متعددة وذات أحجام مختلفة. إلا أن الصوت الأعلى بينها، والغلبة الإيديولوجية ضمنها، هما للقوى التي تقدم قراءة تحريفية لتاريخ لبنان الحديث فترى حقباته تداولاً للهيمنة بين الفلسطينيين والسوريين مع فترة تعايش بين الاحتلالين. إن الخط الواصل بين 1975 و2005 هو خط التهديد العربي للكيان الذي أمكن ل<<ثورة الأرز>> هزيمته.
ففي رأي البعض عاش لبنان ثلاثين سنة متواصلة من الاضطهاد <<السوري>> الذي داس السيادة والاستقلال. إن ما عدا ذلك هو مهمل أو تفصيلي. ويمكن بناء على هذا المنظور اعتبار <<اللجوء>> إلى إسرائيل فعلاً دفاعياً مشروعاً لدرء خطر أكبر.
وفي رأي البعض أن الأوسمة يجب أن تعلق حصراً على صدر مَن أمضى 15 سنة متواصلة في مقاومة الاحتلال السوري. وليس مهماً، في هذه الحالة، التساؤل عن موقع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي خلال ثلثي هذه المدة على الأقل.
وترفض هذه البيئة الإقدام على أي مراجعة ذات معنى أو على أي نقد ذاتي أو على أي التزام بأن الظروف نفسها لن تنتج الممارسات نفسها. فحين قال محسن إبراهيم، مثلاً، ما قاله، جاءته ردود مختلفة. إلا أن اللافت فيها هو ما ذكره الأباتي بولس نعمان وهو من شقين: الأول، هو أن محسن إبراهيم لم يذهب في النقد الذاتي إلى آخره؛ والثاني هو أن الطرف الآخر ليس لديه ما يعيبه على نفسه لأن أخطاءه، إذا كان هناك من أخطاء، هي مجرد رد فعل. كان يمكنه أن يقول <<إن الاعتذار نصف مقبول ولكن ليس لديّ ما أتوب عنه>>.
إن تداخلاً موجوداً بين <<ثورة الأرز>> و<<حراس الأرز>>.
فتلك الثورة لم تكن هبّة وطنية، سيادية، ديموقراطية، توحيدية جرى اغتيالها في أثناء تحليقها. كلا. كانت تحمل، في نشأتها، بذور انقساماتها وتشظيها. لذا يمكن القول، اليوم، إن لكل من أطرافها قراءة خاصة به لها. لا تلتقي قراءة <<الحزب التقدمي الاشتراكي>> مع قراءة <<التيار الوطني الحر>>، ولا تلتقي قراءة <<القوات اللبنانية>> مع قراءة <<تيار المستقبل>> (بغض النظر عن التحالفات الانتخابية اللاحقة).
هناك مَن يريد وصل 14 آذار ب8 آذار وفي ذهنه تقديم وعي للسنوات السابقة وللمهمات اللاحقة. وهناك مَن يريد قطعاً بين الحدثين وفي ذهنه أمور كثيرة. وهناك مَن يتردد ويتلعثم...
غير أنه من الواجب التأكيد أن ثمة أرجحية ما، أرجحية إيديولوجية ثقافية لا عددية ولا سياسية، لسردية محددة يمكن اكتشاف الصلات العميقة والخفية بينها وبين ما جهر به <<الحراس>>. فالمناخ الصاعد يقول <<إن الأحداث لم تثبت صحة تحليلاتها فحسب، بل ها هي قوى عديدة تكتشف معنا كم أن الوجه الوحيد للعروبة هو وجه القاتل الشرير الذي يضمر سوءاً للبنان>>.
إن السجال الضمني والعلني بين قوى 14 آذار ساخن غير أن هناك مَن هو في موقع هجومي إيديولوجياً ومَن هو في موقع دفاعي. يخطئ كثيراً مَن يرفض الاعتراف بذلك، ومَن لا يرى كم أن الروايات عن الماضي القريب هي، عملياً، برامج المستقبل الداهم.
يقدّم المشهد الإعلامي انعكاساً لهذا التوازن. وغالباً ما نرى تستراً وراء ادعاء الرغبة في معرفة <<الحقيقة>> يقصد، فحسب، القضاء على المناعة المطلوبة، وعلى الحصانات اللازمة التي تحول دون وضع هذه <<الحقيقة>> المنشودة في مواجهة مع هوية لبنان القومية.
لقد انزاح مركز الثقل الإيديولوجي بشدة نحو نقطة لبنانوية، ريفية، انعزالية، متطيّرة من العروبة، متعامية عن استهدافات التدخلات الأميركية، متبرّمة من ضرورات الجغرافيا والتاريخ والمستقبل...
إن هذا الانزياح هو بوابة نموذجية لعودة <<حراس الأرز>>. وأسوأ ما يمكن حصوله هو الاعتقاد أن هناك <<معالجة قضائية>> لقضية من هذا النوع.
إن المشكلة أعمق بكثير من أن تحل بتدبير إداري. ولا معنى، بالتالي، لاحتجاز أشخاص توهّموا أن المناخ العام، أو السائد، يسمح لهم بأن يعلنوا ما يعتمل في صدور غيرهم ويختارون كتمانه.
إن حزب <<حراس الأرز>> هو الابن، غير الشرعي، ل<<ثورة الأرز>>.