ثمة سياسيون في العالم يلعبون أدوارا عامة من دون أن يكونوا خاضوا انتخابات. إلا ان شمعون بيريس سياسي من نوع خاص، فهو يلعب دورا عاما منذ حوالي ستين سنة من غير ان يكون فاز في أي انتخابات خاضها أو قادها، يكفي ان يكون مرشحا حتى يربح خصمه.
وغالبا ما تؤكد الاستطلاعات المسبقة انه في المقدمة، ولقد حصل له ان »نام« منتصرا واستفاق مهزوما، لذلك لم تكن خسارته السباق على زعامة حزب »العمل« الإسرائيلي مفاجأة. كانت المفاجأة شخصية الرابح، عمير بيريتس، الذي واجه ائتلافا قويا وحل أولا.
عمير بيريتس في رئاسة حزب »العمل« حدث استثنائي في تاريخ الدولة العبرية فللمرة الأولى يصل إلى هذا الموقع رجل مغربي الأصل، نقابي، مدني.
بيريتس من مواليد المغرب عام 1952، أي بعد نشوء الدولة، »هاجر« إليها في العام 1956 في إطار نزوح حمل عشرات الآلاف غيره وغير عائلته، استقبلتهم الدولة.
كما فعلت مع اليهود العرب الآخرين، لتصفهم في ما يسمى »مدن التطوير« الذي يوحي اسمها بادقاع حالتها والتي بقيت لعقود تنتظر »تطويرا« لم يأت، كان أبوه عاملا وأمه مدبرة منزل، عانى ما عاناه اقرانه من فقر وجوع وعزلة وإهمال، تعرف إلى معنى التشاوف الذي يمارسه اليهود الغربيون والى القمع الثقافي المصاحب له.
ضمن هذه البيئة من اليهود المغاربة أساسا برزت في الستينات حركة »الفهود السود« الاحتجاجية على الأوضاع الاجتماعية البائسة، ولكن الأهم من ذلك ان اليهود الشرقيين المتمردين على المؤسسة الحاكمة العمالية واليسارية انحازوا إلى خصمها الإيديولوجي والسياسي المتمثل في اليمين الليبرالي والمتشدد قوميا.
وقاد هذا الانحياز، عام 1977، إلى انقلاب دراماتيكي في الحياة السياسية الإسرائيلية تمثل للمرة الأولى بوصول مناحيم بيغن إلى رئاسة الحكومة وبتعرض حزب »العمل« إلى خسارة مدوية.
وكانت المفارقة ان الحزب الذي يملك برنامجا معاديا للفقر وسياسة معادية جذريا للعرب نجح بأصوات فقراء قادمين من دول عربية لم يتعرضوا فيها إلى الاضطهاد الذي تعرض إليه اليهود الأوروبيون.
خدم بيريتس في الجيش وجرح، انخرط في حزب »العمل« مميزا نفسه عن أبناء جيله ودخل السياسة أساسا من زاوية العمل البلدي عندما نجح في انتزاع رئاسة بلدية سديروت من الليكود (سديروت المدينة التي نعرضها لأنها مرمى الصواريخ من غزة) أصبح نائبا في العام 1988 .
وقدم عددا من المشاريع التي أكدت حسه الاجتماعي وولاءه لأصله الفقير ثم عمل في نقابات الهستدروت إلى جانب حاييم رامون. افترق عن حزب »العمل« ليؤسس حزب »شعب واحد« وينتزع له ثلاثة مقاعد نهاية التسعينات قبل ان يعود إلى »العمل« بدعم من شمعون بيريس.
ولقد حصل ذلك في ظل رئاسته لـ »هستدروت«، أي المؤسسة التي تحتل موقعا مركزيا في إسرائيل وتضم مئات النشطاء ومئات الآلاف من العمال وتملك مؤسسات اقتصادية ومصارف.
بموازاة هذه السيرة ضمن المؤسسات الإسرائيلية تميز بيريتس بأنه كان من أول من اقتنع بضرورة الحوار مع الفلسطينيين. فعل ذلك منذ عقدين أيام كانت الاتصالات مع منظمة التحرير ممنوعة بقانون إسرائيلي، وانضم إلى حركة »السلام الآن« ووقع قبل سنوات »وثيقة جنيف« ومثل على الدوام جناحا معتدلا ضمن الحركة الصهيونية يضغط من اجل تسوية دائمة.
يقال عن بيريتس أنه أكثر »حمائمية« من يوسي سريد وأكثر »اشتراكية« من قيادات حزب »العمل«، يعتبر نفسه »اشتراكيا ـ ديمقراطيا« ويتعرض إلى انتقادات كثيرة بسبب ذلك علما انه يدافع عن نفسه بتأكيد انه ما من وسيلة اخرى لانتزاع جمهور اليهود الشرقيين المفقر من براثن »ليكود«.
حصلت المواجهة الانتخابية الأخيرة في لحظة خاصة من تاريخ »العمل«، فلقد تحول الحزب حسب وصف سريد إلى »العجلة الخامسة في مركبة شارون«، أي إلى العجلة الإضافية التي لا لزوم لها. فبيريس، بدخوله الحكومة لم ينجح في فرض اتحاد وطني كما في السابق .
وإنما في تمكين شارون من تشكيل حكومة ليكودية مطعمة بعناصر »عمالية« ووظيفة هذه العناصر تأمين الأصوات اللازمة في الكنيست من اجل تمكين رئيس الحكومة من صد مناورات بنيامين نتانياهو.
بكلام آخر، لقد بات الحزب الذي أقام الدولة بالحروب، حزب الرواد والأكثرية، حزبا يمثل التشرذم والتراجع والالتحاق وضياع الهوية، لم يعد يملك رؤية او برنامجا .
ولم يعد يتمكن من جذب ناخبين يفضلون يسارا غيره، وعلمانيين غيره، ووسطيين غيره. وكان مقدرا لبيريس لو فاز ان يستمر على طريق الانحدار في ظل ترقب قيادات أكثر شبابا غيابه من اجل تنازع ما تبقى من الميراث.
وفجأة حصل ما حصل، فاجأ بيريتس الجميع بأن ينتزع الانتصار في اللحظات الأخيرة، يصعب القول انه بات لحزب »العمل« برنامج واضح ولكن على الأقل بات على رأسه الرجل الذي يزعم انه يمثل بديلا وانه يستطيع ان يقترح على الجمهور خيارا آخر، أي يستطيع ان يعيد إلى السياسة بعض معناها.
وبهذا المعنى فان بيريتس يملك »وظيفة« في الداخل الإسرائيلي وهي وظيفة من مستويين، الأول والأكثر طموحا هو ان ينجح في فرض انتخابات في وقت مناسب وان ينجح في استنهاض »العمل« وفي الاقتراب من القدرة على تشكيل ائتلاف قادر على الحكم.
الثاني، والأقل طموحا، هو ان يتوصل إلى تشكيل معارضة حيوية ومقدامة، فمنذ سنوات والصورة التي تقدمها إسرائيل عن نفسها هي صورة الانقسام بين سلطة يقودها شارون ومعارضة يقودها نتنياهو، ولقد سمح ذلك بنشوء الوهم الكبير الذي يقدم رئيس الحكومة بصفته »رجل سلام«.
ويدعو، بناء على ذلك، إلى دعمه. ولقد اشتركت دول أجنبية وعربية في تعميم هذا الوهم وإسناده إلى حيثيات واقعية تتمثل في اضمحلال المعسكر الذي يقدم أطروحات أخرى.
أعاد بيريتس بعض الروح إلى الحياة السياسية الاسرائيلية، لكن ذلك لا يوجب على احد من الطرف العربي المقابل ان ينسى ولو للحظة ان الرجل يمثل في نهاية المطاف »اليسار الصهيوني« ويعني ذلك في ما يعنيه ان برنامجه للحل لا يمكن قبوله من دون تفاوض ومن دون ضغوطات جدية عليه لتعديل بعض بنوده.