يعد بالإمكان تجاهل البلاغات الرسمية السورية التي تتواتر منذ أشهر عدة وتحديداً منذ خروج القوات العسكرية من لبنان، عن حصول اشتباك هنا وآخر هناك مع مجموعات إرهابية مسلحة.
بدأت بالإعلان الرسمي عن التصدي لعصابة إرهابية عابرة للحدود السورية اللبنانية أسفر عن مقتل عنصرين من الأمن وأحد المتطرفين قيل أنه تونسي الأصل واعتقال العشرات، تلاه إعلان عن مواجهة مع مجموعة مسلحة في جبل قاسيون قرب دمشق أفضت الى قتل قائدها الأردني الأصل واعتقال آخرين ومقتل ضابط سوري مع تكرار إشارات تربط بين بعض عناصر هذه الجماعة وفدائيي صدام حسين، ثم حادثة مماثلة في منطقة الزبداني واخيراً أعلن عن اشتباكات دامية حصلت في قرية جبرين قرب مدينة حماه انتهت بقتل خمسة أشخاص قيل أنهم ينتمون الى تنظيم جند الشام الإسلامي المتطرف!!..
واللافت أن تقابل هذه البلاغات شعبياً بكثير من اللامبالاة والريبة في صدقيتها ليس فقط بسبب سرعة توظيفها الإعلامي والسياسي، عندما تلحق على الفور بالإسلام المتشدد وتنظيم القاعدة ، وإنما أيضاً بسبب ضبابية المعلومات حول ما يحدث وعدم دقتها وأحياناً تناقضها مع المعلومات الأهلية المستقاة من منطقة الحدث والتي يشير بعضها الى صفات جنائية للمسلحين كلصوص أو مهربين، لا علاقة لهم بالإرهاب الأصولي!!
مرة أخرى يجب التأكيد أن سوريا عانت فعلاً في ما مضى ولسنوات من صراع دموي بين السلطة وتنظيم الأخوان المسلمين وكانت له أسبابه المعروفة، لكن اليوم ليس ثمة سبب سياسي ظاهر يمكن أن يقنع أحداً بأن العنف الإسلامي أو تنظيم القاعدة أو حتى بعض فلول نظام صدام حسين تسعى كي تستهدف المجتمع السوري (...).
فالمعروف راهناً أن الخط الناظم للقوى الأصولية المتطرفة وعلى اختلاف تسمياتها هو مواجهة ما تسميه قوى التحالف الصليبي الصهيوني ، وطالما لا يزال الموقف السوري المعلن رافضاً احتلال العراق بل ويتهم مراراً بتسهيل عبور مقاتلين متشددين الى هناك ويتعرض لضغوط متنوعة بسبب دعمه تنظيمات إسلامية مسلحة كـ حزب الله في لبنان وحركتي حماس و الجهاد الإسلامي في فلسطين، فليس ثمة دافع مباشر كي توضع سوريا اليوم على قائمة الاستهداف الإرهابي!!..
يجد الكثيرون أن هذه البلاغات ليست إلا مبالغات تتقصد توظيف عمليات بعض الأجهزة الأمنية ضد خارجين عن القانون أو متهمين بقضايا جنائية بصفتهم عناصر متطرفة تنتمي الى الإرهاب الإسلامي أو لتنظيم القاعدة ، الغرض منها محاولة تقديم نوع خاص من العروض يحمل في متنه أكثر من رسالة.
أولاً، الى قادة البيت الأبيض بأننا في الهوى سوا ، وأن معاناتنا من الإرهاب مشابهة لمعاناتكم، بل أن سوريا مثلكم تماماً تتعرض، (وقد تعرضت في ما مضى)، لهجمة أصولية تتطلب تفهماً وتعاوناً لتفادي أسبابها ونتائجها (...).
وربما لا يخفى على أحد ما وراء هذه الرسالة من رهان على تليين الموقف الاميركي والمساعدة على تخفيف حدة التوتر في العلاقات بين الطرفين والتي وصلت الى ما يشبه القطيعة (...).
ثانياً، رسالة الى الأوروبيين تهدف الى تعزيز خيارهم الداعي الى مراعاة خصوصية التغيير الديموقراطي في سوريا وتالياً زيادة مخاوفهم المعلنة من أن يفضي انفلات الأوضاع الى فوضى يرجحون أن تقطف ثمارها قوى العنف والتطرف الأصولي وتكون نتائجها سلبية على استقرار المنطقة وتطور مسار لبنان الجديد، الأمر الذي يؤمل منه أن يخفف من اندفاع التوظيف السياسي لتحقيقات ميليس وربما يحل بعض العقد أمام توقيع اتفاق الشراكة بين سوريا والاتحاد الأوروبي، واستجرار دعم أوروبي لآلية من الإصلاحات تدريجية، أو لعل الغرض أن تلعب هذه الرسالة في الحد الأدنى دوراً في إجهاض الخطوات الأولى لما يشاع عن توجه جديد بدأ يغزو العقل الغربي جوهره التعاطي الايجابي مع تيارات الإسلام السياسي المعتدل في المنطقة عموماً وفي سوريا على وجه الخصوص.
ثالثاً، رسالة الى الداخل السوري لإظهار موقع السلطات القادر وأن هيبتها السياسية وكفايتها الأمنية لم تصابا بأي أذى إثر الجديد الحاصل في المنطقة وبعد انسحاب القوات العسكرية من لبنان ومع النتائج المستجدة للتحقيقات المتعلقة بحادثة اغتيال الرئيس الحريري.
ويمكن اعتبارها بمثابة خطوة مكملة لخطوات أخرى على طريق إحياء المناخات الأمنية القديمة (...).
وخير دليل على هذا المسار تكرار الظواهر والممارسات التي تؤكد حضور القبضة الأمنية وتنذر بعودة سياسة العصا الغليظة ضد المجتمع، وتظهر تصميماً لافتاً على ردع النشاطات المدنية والسياسية المحدودة أصلاً (...).
يوماً بعد يوم يتضح أن ثمة مسلسلاً تنجز حلقاته، حلقة إثر أخرى، للإجهاز على هامش الحراك المدني والثقافي، ويتضح، بعد الاعتقالات المتفرقة التي جرت لبعض النشطاء المدنيين والحقوقيين، أن تعليق أعمال منتدى الأتاسي ونشاطاته كان بداية هذا الطريق وجزءاً من آلية متكاملة ومحضرة مسبقاً لمنع أي لقاء أو نشاط في إطار العمل الديموقراطي والمدني درج الناس على ممارسته طوال سنوات (...).
ثم لنفترض جدلاً أن ثمة ظواهر متطرفة وخطرة بدأت تنمو في سوريا وتتوالد، ألم تعلمنا التجربة الحية بأن الحلول الأمنية لا تجدي نفعاً؟ ثم أليس الرأي الرسمي هو ذاته الذي يكرر النصائح ليل نهار بأن اعتماد الحل الأمني في مكافحة الإرهاب هو رؤية قاصرة غير مجدية تزيد مناخات العنف تفاقماً؟!
بل هل يضع مطلقو ادعاءات مواجهة الإرهاب في حساباتهم احتمال أن تفضي إعلاناتهم المثيرة للشك والجدل الى نتائج عكسية في ظل حالة من الاحتقان الاجتماعي والتأزم السياسي المتفاقمة في البلاد، تزيد تلقائياً من فرص نمو الميول العدوانية عند البشر وتؤجج في نفوسهم نيران الغضب وتدفعهم أحياناً دفعا نحو العنف؟
إن هذه الحدود المرسومة للحرب على الإرهاب ربما تساهم في نشر الإرهاب ذاته، لا سيما مع اقتصارها على الجانب الأمني وغياب التوعية السياسية حول ماهية المجموعات التي ينتمي اليها الارهابيون وما هي مخططاتها وأهدافها!!. وفي المقابل فالمعالجة الناجعة لآفة الإرهاب ليست في البحث عن استمالة الخارج والاجتهاد في كسب وده، بل الالتفات صوب الداخل وفتح الأبواب لدور حقيقي للمجتمع وقواه السياسية والمدنية الحية.
فالإصرار على إغلاق الحقل السياسي والتمسك بالصيغة الاحتكارية للسيادة يزيد من مفاقمة أزمات المجتمع ومشكلاته في السلبية والفساد والفقر وبالتالي اليأس والإحباط وكلها عوامل فاعلة وحافزة للعنف وتشكل الأرض الخصبة لنمو ظواهر التعصب والتطرف!!.