ثمة وجهتا نظر ترشحان من مسام الدولة السورية لتحديد خيار التعاطي مع جديد التهديدات والضغوط الأميركية ورسم أشكال إدارة الأزمة مع الجماعة الدولية. ومع أنها ليست المرة الأولى التي تصل فيها التهديدات والضغوط على النظام السوري الى هذا الحد من القوة والوضوح، لكنها المرة الأولى التي تترافق مع شعور عام بأنه يستحيل الإفلات منها أو تفادي أهدافها، وأن ثمة مرحلة مقبلة صعبة وربما تكون قاسية جداً على سوريا، خصوصاً إذا ما توصلت لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري الى توجيه إصبع الاتهام الى بعض رجالات النظام.
تنحو وجهة النظر الأولى نحو الخطاب التعبوي وتعتبر ما يجري استمراراً للمؤامرة الأميركية والصهيونية للنيل من سوريا ومواقفها الوطنية والقومية، فتستحضر من الماضي دعايتها الإيديولوجية وشعارات هجومية طنانة تندد بالعدوان ومخططاته على أمل إلهاب المشاعر ضد ما تراه معركة مصيرية يقف على نتائجها مستقبل الأمتين العربية والإسلامية!! ما يعني الإصرار على التمسك بأولوية السياسة الخارجية وتقديم دورها على مسرح إعادة إنتاج المواقع والقوى، وتالياً إخضاع الداخل لقبضة حديد وتسويغ الاستمرار في احتكار الحقل السياسي والسيطرة على الثروة والمال والثقافة والإعلام.
وما يثير الغرابة أن يزداد عنفوان هذه الحملة طرداً مع زيادة الاطمئنان بأن واشنطن لن تخوض غمار حرب جديدة بعد النتائج المريرة في العراق وأن سقف سياساتها ضد دمشق لن يتعدى توظيف مختلف أشكال الضغط والحصار الاقتصادي والسياسي والإعلامي، وتجاه ذلك لا يعير أصحاب هذا الرأي انتباهاً لما ينتظر الشعب من جوع وفقر وامتهان كرامة في ظل مزيد من الحصار والعزلة طالما نجت مواقعهم وسلمت مكاسبهم، وطالما توفر لهم ظروف الحصار العصيبة دافعاً مقنعاً لتحويل الداخل الى ما يشبه قاعدة مواجهة وخنق هوامش الحراك المدني والسياسي المحدودة، لأنهم خير من يعرف أن أي انفتاح على المجتمع قد يكشف هشاشة دعائم السيطرة ويفضي الى نتائج " غير محمودة "، هم في غنى عنها مع ارتفاع حرارة الضغوط الخارجية.
يعزز هؤلاء خيارهم بفكرة تقول إن التنازلات للتخفيف من أثر الضغوط الأميركية عبر كسب ود واشنطن والاستجابة لبعض مطالبها الإقليمية لن تجدي نفعاً، فكل خطوة إلى الوراء ستجر خلفها خطوات وتترك الباب مفتوحاً أمام متوالية من الاشتراطات والإملاءات قد تهدد أسس السيطرة في الصميم. كما من العبث عندهم البحث عن خلاص من المأزق الراهن بالقياس مع أي نموذج أو تجربة أخرى مهما كثرت عناصر التشابه، ليبيا والعراق مثلاً، متوهمين بأن عدم استقرار لبنان وتوتر وضعه الأمني يعيد لدورهم بعض الاعتبار وأن العمليات العسكرية الجارية في العراق تشغل إدارة البيت الأبيض عنهم وقد تمهد لإيقاع الهزيمة بسياساتها، ربما لإقناع أنفسهم بصحة عنفوانهم الهجومي قبل إقناع الآخرين به، وتبرير ما يرفعونه من عبارات تحدٍ غير مسؤولة، وشعارات لا تمت إلى الواقع والإمكانات بأي صلة، عن سوريا القوية والمكتفية التي لا تعرف الخضوع أو الاستسلام، وأنها غير العراق، وإذا ذاق الأميركيون وأعوانهم في العراق المر، فإنهم سوف يذوقون في سوريا المر والعلقم!! وتكتمل اللوحة باللجوء الى لغة التهديد، وإرسال إشارات تنذر بتوظيف ما روكم من تحالفات وأسلحة وخبرات أمنية لتفجير المنطقة برمتها ونقلها الى الفوضى، كأنها رسالة تحذير للخصوم من شر الدخول في لعبة كسر عظم!!
تقف وجهة النظر الثانية على قراءة عقلانية لتوازن القوى القائم واتجاه تطوره، وتنصح بضرورة التعاطي المرن لتهدئة الضغوط والاندفاعات الغربية. فالمرونة مشروعة في اللحظة الراهنة وتعني تلمس المتغير النوعي بعد سقوط العراق والحضور العسكري الأميركي على أرضه، وضحالة ما تملكه سوريا من قوى ذاتية وتحالفات عالمية وإقليمية.
ويرى هؤلاء ضرورة الانحناء أمام العاصفة والتكيف مع الجديد الحاصل، ولا ضير عندهم من تقديم تنازلات أضحت برأيهم أوراقاً محروقة يلهون بها الدب الأميركي ويبعدونه عن كرمهم، مثل كف اليد السورية عن الشأنين العراقي واللبناني وتحييد سياساتها من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بما في ذلك دعم أحادية تمثيل السلطة الفلسطينية في مناطق سيادتها. ويعتبرون من الخطورة بمكان الهروب الى الأمام وطرح شعارات لا تمت للواقع بصلة أو الاستمرار بسياسات تدخلية إقليمياً، لأن كلفتها سوف تكون باهظة جداً، فالسياسة السورية باتت مكشوفة وتحت أضواء ساطعة وضاق هامش مناورتها الى حد لم تصله منذ عقود وانخفض سقف أدائها السياسي ليقتصر على الدفاع عن الحكم القائم نفسه وأسباب استمراره، ليس إلا!! ناهيك عن أنها فقدت أهم ميزة من ميزاتها التاريخية وهي القدرة على المماطلة والتسويف والرهان على عامل الوقت وما يمكن أن يحمله من مستجدات يمكن الإفادة منها للالتفاف على الضغوط والحصار المفروضين. فأميركا لم تحضر الى العراق لتخرج منه عند أول ارباكات أو صعوبات، وليس من خسائر ذات قيمة، معنوياً وسياسياً، يمكن أن تفضي سريعاً الى انعدام شعبية الرئيس بوش وتكرهه في زمن قياسي على الانسحاب مهزوماً ومذلاً. وأيضاً ليس وارداً أن تتخذ روسيا المنهكة مبادرة مفاجئة وتطلق إنذارا على شاكلة إنذار بولغانين دفاعاً عن النظام السوري، في حين تغرق إيران حتى أذنيها بهمومها الخاصة ويبدو أن أزمتها مع الغرب تشتد وتستعر وربما تصل حد القطيعة في حال نقل ملفها النووي الى مجلس الأمن.
في المقابل، هي من المرات الواضحة التي تلمس فيها نوعاً من عدم المبالاة في الأوساط الشعبية السورية تجاه تواتر الضغوط والتهديدات الأميركية، ربما يعود الأمر إلى شعور الناس المزمن بأن لا دور لهم ولا قيمة وأنهم مغيبون لا يؤخذ رأيهم في الحسبان، أو ربما لشيوع حالة من الاطمئنان بأن السياسة الرسمية لن تذهب بعيداً في أزمتها مع واشنطن، وقد خبروها جيداً بأنها، وطوال تاريخها، وفي أزمات إقليمية أشد حدة، لم تقطع شعرة معاوية مع البيت الأبيض ونجحت في إعادة قنوات الحوار والتفاهم، أو لعل السبب يرجع إلى اقتناع تولد لديهم بأنهم غير معنيين بهدف هذه الضغوط ونتائجها وأن ما يشغل بال الإدارة الأميركية ليس المجتمع السوري، بل السلطة وسياساتها في المنطقة.
بينما ويا للأسف لا تزال غالبية الطيف المعارض أسيرة العقلية القديمة والمنظومة المفهومية السلطوية ذاتها ولما تتحرر بعد من دور التعبئة الإيديولوجية في مقاومة أجندة القوى الخارجية ومخططاتها. أليس مقلقاً أن تجد بعضها تسوقه اليوم الدعوات للحفاظ على ما هو قائم كمكتسب وطني وقومي، مجاهراً بالرغبة في إرجاء التغيير الديموقراطي بصفته، أي هذا الإرجاء،أحد وجوه الانتصار على الهجمة الأميركية التي ترفع يافطة الحرية والديموقراطية. وكأن هزائمنا المتعددة وحالنا التي تثير الشفقة لم تقل كلمتها بحق هذه العقلية!! وكأن الشروع بانفتاح جدي على المجتمع السوري وقواه الحية وتحريره من الأحادية هو نوع من التفريط الوطني وإضاعة لمكتسبات قومية!!
ثمة اهتزاز واضح في الثقة الشعبية بقوى التغيير الديموقراطي، ولا شك في أن إعادة بناء هذه الثقة تحتاج اليوم إلى ما يشبه الثورة في المفاهيم وفي طرائق التفكير والعمل، تبدأ بوقفة نقدية جريئة تكشف أسباب العجز والتقصير وتدعو الى تجاوز ظواهر التردد والخوف (...).
يفترض بالطيف الديموقراطي المعارض أن لا يقف موقف المتريث والمترقب ويترك الأمور ليتفرد في تقريرها الطرفان المتصارعان، السلطة وإدارة البيت الأبيض، وهو يفعل عين الصواب عندما يقتحم المسرح ويتقدم بجدية وعزم للتأكيد على مطلب التغيير الديموقراطي كمطلب ملح بدلالة حاجات المجتمع ومصالحه بعيداً عن القلق والتخوفات التي تثيرها العقلية الإيديولوجية، وتزداد ممارساته صواباً عندما يعزز مع كل موجة جديدة من الضغوط والتهديدات تتعرض لها سوريا، دعواته إلى الحريات والتعددية وتهيئة القوى لقيادة عملية التغيير، ليس فقط بسبب يقينه أن المجتمع الحر هو الأقدر على مواجهة التحديات والأخطار المحدقة، وإنما أيضاً في محاولة صريحة لتوظيف تراجع وزن النظام بفعل الضغط الخارجي واستثمار الشروط الجديدة لجعل بعض المطالب الديموقراطية، التي أصبحت أشبه بشعارات دارجة، ملتها الناس لتكرارها طوال عقود، واقعاً قائماً (...).