تعد سنغافورة دولة من تلك الدول التي تأخذ الإنترنت على محمل الجد. فقد منح وزير دفاعها في الأسبوع الماضي, أحد الشباب دون سن العشرين - ممن يجب عليهم أداء الخدمة العسكرية الوطنية- تأجيلاً يمكنه من استكمال منافساته في نهائيات مباريات ألعاب الكمبيوتر العالمية, وهي عبارة عن أولمبياد للألعاب الحربية عبر شبكة الإنترنت. وتعرف هذه الدولة الصغيرة, التي لا يزيد عدد سكانها على الأربعة ملايين نسمة, بولعها المفرط برعاية كل من لديه ذرة موهبة من مواطنيها. ولهذا فليس ثمة غرابة في أن ترتاد سنغافورة المزيد من الآفاق الجديدة في الابتكارات المدرسية, لا سيما وأنها تحتل المرتبة الرابعة، والثامنة عالمياً, في امتحانات "التايمز" الدولية, التي عُقدت لمادتي الرياضيات والعلوم. وبما أن حكومة سنغافورة تعي حقيقة عالمنا المسطح هذا, الذي أصبح فيه ممكناً للوظائف أن تهاجر أينما تشاء, فإنها لا تكتفي بالتفوق على جاراتها الآسيويات فحسب, بل تشعر بأن عليها أن تتفوق على أي كان, حتى علينا نحن في الولايات المتحدة. والرسالة التي تبعث بها هذه الدولة إلينا, هي أنها لا تسابقنا باتجاه الهبوط إلى سفح الجبل, بل باتجاه القمة!
وكما أوضحت لي "لو سيميانار" مديرة مدرسة "أكسيمين" فإن أكثر شيء تهتم به سنغافورة, هو تنمية مواهب وقدرات طلابها. وقالت مستطردة إن الاهتمام ينصب أكثر على اكتساب المزيد من نقاط القوة الأميركية, أي دفع أعداد أكبر من الطلاب والمعلمين على حد سواء, باتجاه الإبداع والابتكار. وعلى رغم تأكيدها على أهمية المهارات الرقمية, فإنها قالت إنها تشجع الآن طلابها على ضرورة أن يكونوا أكثر إبداعاً وقدرة على الابتكار. وقالت إنها تدفع معلميها وتحفزهم نحو المضي في هذا الاتجاه. وأضافت قائلة إن مدرستها شرعت في إرخاء قيود التشدد المدرسي, بحيث يسمح للطلاب والمعلمين بتنمية أفكارهم وابتكاراتهم الخاصة. وفي هذا الصدد قالت "سيميانار" إن مدرستها بدأت تتجه الآن, من مجرد تنفيذ مضمون المنهج الدراسي إلى ابتكار المنهج نفسه, طالما أنه ليس بالضرورة أن يكون المعلم هو المصدر الوحيد للمعرفة داخل الفصل, وأنها يمكنها أن تنبع من بين صفوف الطلاب والتلاميذ أنفسهم داخل الفصل.
وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية, فقد تبنت بعض المدارس السنغافورية برنامجاً تدريسياً يُدعى HeyMath كان قد بدأ تدريسه في منطقة شيناي الهندية بواسطة اثنين من المصرفيين الهنود الشباب, هما نيرمال سانكاران وهارس راجان, بالتعاون والتنسيق مع مشروع "رياضيات الألفية" بجامعة كامبريدج.
والسؤال البسيط المباشر الذي يوجهه معلمو الرياضيات البريطانيون والصينيون والهنود والسنغافوريون العاملون ببرنامج HeyMath المذكور, هو: إنْ كنت أباً أو أماً, في أي بقعة من بقاع الأرض, ولاحظت مدى تفوق الأطفال الهنود والصينيين والسنغافوريين في مادة الرياضيات, ألا يخطر لك مطلقاً أن تتساءل عن جودة الكتب الدراسية المقررة, وعن نوعية ومستوى التدريس, إلى جانب الوسائل التعليمية المختلفة المستخدمة؟ ثم ألا تلفت نظرك براعة الخطط التدريسية التي يتم بموجبها تدريس عمليات القسمة والضرب لتلاميذ الصف الرابع, ومعادلات الجبر التربيعية لطلاب الصف العاشر؟ وكم سيكون جميلاً لو قدر لنا أن نكون برفقتهم، وهم يضعون كل هذه التطبيقات الرياضية البارعة, مصحوبة بالصور والرسومات المتحركة عبر شبكة الإنترنت, حتى يتمكن أي معلم في أي بقعة من الكرة الأرضية, أن يتبنى هذه التطبيقات أو يعدلها كما يشاء, وفقاً لظروف وقدرات فصله المعين!
إلى ذلك تقول الآنسة سانكارا – التي ورد ذكرها آنفاً- إن الآباء والأمهات, وبصرف النظر عن أين هم ونوعية المدارس التي يذهب إليها أبناؤهم وبناتهم, فإنك تجدهم في حالة مستمرة من القلق إزاء فوات شيء ما على أطفالهم. وبالنسبة للبعض, ربما يكون هذا الشيء النهج التدريسي الصحيح, بينما قد ينصب قلق البعض على الإبداع. ولذلك فإنه يصعب جداً الحديث عن نظام تعليمي مثالي مطلق. ومن هنا فقد سعينا إلى توفير أرضية يسهل من خلالها التبادل المستمر لأفضل النظم والتطبيقات التعليمية, في مجال تدريس المفاهيم الرياضية. لذا فليس ثمة غرابة في أن نسمع أحد الأساتذة وهو يشكو من مواجهته لمصاعب ما في تدريس مفهوم التماثل لتلميذ يبلغ من العمر 14 عاماً, ويتساءل عن المنهج الذي يدرس للتلاميذ في العمر نفسه في كل من الهند وشنغهاي مثلاً.
ومن جانبي أقر بجودة الكتب المدرسية المقررة لتدريس مادة الرياضيات في سنغافورة. وليس أدل على ذلك, من استخدامها من قبل المدرسة التي تدرس فيها ابنتي في ميريلاند. ولكن تكمن مشكلتها في جمود تصميمها, وافتقارها لعنصر الإثارة والتشويق البصري للطلاب والتلاميذ. غير أن الآنسة "سانكارا" أوضحت من جانبها, أن المناهج التي يستخدمها مشروع HeyMath تحتوي على الصور والرسوم المتحركة, التي تساعد على إزالة التجريد الذي تتسم به المفاهيم الرياضية, فضلاً عن توفيرها للأنشطة التفاعلية التي تساعد الطلاب والتلاميذ على استيعاب المفاهيم المراد توصيلها, وذلك عن طريق تبسيطها وربطها بسياق الحياة اليومية العادية, وتقريب تدريس مادة الرياضيات من واقع الحياة اليومية.
وعليه فإن المتوقع لهذا المشروع أن يكون بمثابة محرك البحث "جوجل" الشهير, في تدريس مادة الرياضيات. والمقصود هو أن يتحول المشروع إلى موقع قاعدة بيانات إلكترونية, تمكن الطلاب من تلقي مادة الرياضيات واستيعاب مفاهيمها, على يد خيرة معلمي هذه المادة على نطاق العالم بأسره. كما سيمكن هذا الموقع كلاً من الطلاب والأساتذة, من معايرة أنفسهم, قياساً بأقرانهم, على نطاق عالمي أيضاً.
فهل لنا أن نستلهم حكمة الإبداع والعبقرية الرياضية هذه, ونحن نتطلع إلى رفع قدرة أطفالنا على المنافسة في هذا العالم المسطح؟