أمران يشغلان بال النظام في سوريا اليوم، وكلاهما مر. الأول هو إعصار ديتليف ميليس القاضي الألماني رئيس لجنة التحقيق الدولية بقضية اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري وما يعنيه من توجيه اتهام لسوريا بالتورط في مقتل الحريري والثاني هو فيضان زلماي خليل زاد السفير الأمريكي في بغداد وتصريحاته ضد دمشق بأن كل الخيارات بما فيها العسكري باتت مطروحة بعدما نفد صبر أمريكا!
الأمران خطيران وكلاهما يوقع سوريا في دائرة الاستهداف الأمريكي ويضع رأس النظام بين فوهتي بندقية من اليمين والشمال وهو لا يدري من أي منهما ستنطلق الطلقة الأولي، وإذا استبعدنا النيات السيئة والمواقف المسبقة فإن الملف السوري بحاجة إلي معالجات تتسم بالحكمة حتي يمكن إزالة الالتباس وسوء الفهم بالنسبة للملفين العراقي واللبناني.
لكن حتي اللحظة فإن الأمور تسير بانحراف عن مسار الالتقاء بين الإدارة الأمريكية والنظام السوري وتكاد تعيد نفس السلوك مع العراق فثمة ضغوط أمريكية تقابل بالرفض من جانب سوريا ثم تزيد الضغوط فيتم الانصياع شيئاً فشيئاً من جانب سوريا ومع ذلك لن تقنع أمريكا في النهاية إلا بتنفيذ كامل المخطط والاستراتيجية الهادفة إلي إعادة رسم خريطة المنطقة.
عمليات التسخين الواضحة للملفين العراقي واللبناني وبشكل متزامن يضع سوريا في موقف الدفاع ضد شبهات ربما التبست فيها الأدلة بحيث أصبح لدي أمريكا دليل قطعي علي تورط سوريا في الوقت الذي تري فيه سوريا أن الأدلة مردود عليها وأنها قدمت كل ما تملك من تعاون فيما يتعلق بمسائل الملفين.
تصريحات السفير الأمريكي زلماي خليل زاد خرجت عن كل لياقة دبلوماسية وحملت تهديدات واضحة ضد سوريا بتوجيه ضربة عسكرية عندما قال إن صبر أمريكا نفد إزاء عدم قيام سوريا بضبط الحدود ومنع المتسللين إلي العراق الذين بسببهم يتردد سنة العراق في الموافقة علي الدستور وهو اتهام مزدوج بأن هؤلاء يقتلون الجنود الأمريكيين كما أنهم يعملون علي إفشال المشروع الديمقراطي الأمريكي.
الاتهامات ردت عليها سوريا بأنها تبذل كل ما في وسعها لضبط الحدود مع العراق وهي حدود طويلة تزيد عن 600 كيلو متر أقامت عليها سواتر ترابية وأنشأت المزيد من نقاط المراقبة وسيرت الدوريات علي طول الحدود وسلمت العديد ممن اعتقلتهم إلي دولهم، كما أنها نفذت القرار الدولي 1559 بالانسحاب من لبنان.
وتثنية علي مرافعة سوريا ضد هذا الاتهام فإنه يصعب علي سوريا ذات الامكانيات الشحيحة ضبط الحدود خاصة أنها تمتد وسط مناطق صحراوية وإذا كانت سوريا قد أخفقت فلماذا لم تنجح أمريكا في ضبط الحدود من الجانب العراقي وهي تتمتع بامكانيات تفوق عشرات المرات ما تملكه سوريا.
وإذا كان الاتهام بأن هؤلاء يدخلون عبر بوابات نظامية فلماذا لا يتم ضبط هؤلاء عبر تلك البوابات لدي عبورهم إلي الجانب العراقي، والغريب أن تصريحات بعض القادة الميدانيين الأمريكيين كانت تؤكد لوقت قريب تعاون سوريا في ضبط الحدود مع العراق.. فلماذا هذا التحول الآن؟
إنها سياسة الذئب والحمل ولا أستبعد أن تلجأ الإدارة الأمريكية إلي استعارة تجربة باول في مجلس الأمن عام 2002 عندما قدم أدلة بالأقمار الصناعية علي امتلاك العراق لأسلحة تدمير شامل ليكتشف العالم فيما بعد وعلي لسان باول نفسه أنها كانت مجرد وثائق مزورة تمت معالجتها فنياً وأنه نادم علي تلك الكذبة التي أصبحت وصمة عار في تاريخه السياسي.
هذه الاستعارة تكمن في تقديم صور لمجاميع وأفراد يعبرون الحدود بين سوريا والعراق وهو أمر يسهل من الناحية الفنية تركيبه وتزويره لكنه من الصعب أن تقنع الإدارة الأمريكية بتخليها عن سياسة الكذب التي قامت عليها الحرب في العراق لتصبح سوريا الكذبة الثانية.
هذا الكلام ليس دفاعاً عن النظام السوري الذي وضع نفسه موضع الشبهات والتي تحاول أمريكا أن تستغلها لتنفيذ أهدافها الاستراتيجية أو علي الأقل أهدافها التكتيكية وذلك بتصدير الفشل إلي فشل آخر أو الهروب من الحرب إلي حرب أخري تظن أنها يمكن من خلالها أن تحقق انتصاراً مفقوداً في حربها علي الارهاب منذ ما يقرب من خمس سنوات أو أن تكون مخرجاً لبوش لاستعادة شعبيته التي تزداد تدنياً يوماً بعد يوم.
أما الاتهامات والشبهات التي تدور حول سوريا فيما يتعلق بالملف اللبناني وقضية اغتيال الحريري قد تعززت بشكل أكبر بعد توصية ميليس باعتقال أربعة من القادة الأمنيين واستجوابهم علي ذمة القضية وهؤلاء محسوبون علي سوريا.
كما أن زيارة ميليس الخاطفة والتي أحيطت بالغموض والسرية تعزز من الشكوك وتفتح الباب أمام مزيد من التكهنات والمفاجآت والاحتمالات، فقبل اعصار ميليس الذي أعقبه فيضان زاد كان بوسع المسؤولين السوريين أن يقولوا إن أي اتهام لسوريا هو محض تخرصات لكنها اليوم أصبحت في دائرة الشبهة العلنية التي لن ينفع معها تدبيج المقالات والإدلاء بالتصريحات لكن الذي سيجزم فيها هو ميليس.
وهذا القاضي الألماني عندما ذهب إلي سوريا كان يحمل معه أدلة علي تورط سوريا في اغتيال الحريري، ولديه كشف بأسماء مسؤولين سوريين كبار بعضهم أقارب للرئيس بشار الأسد وبعضهم قريب منه وهؤلاء جميعاً موضع شبهة وتحقيق حتي تثبت براءتهم من عدمها.
وعندما يوجه مثل هذا الاتهام لبعض المسؤولين في سوريا فإن ذلك يعني أن النظام برمته أصبح موضع شبهة استناداً إلي طبيعة الحكم في سوريا التي لا تسمح لأحد بأن يكون صاحب القرار خاصة في مثل هذه القضايا دون الضوء الأخضر من الرئيس.
ويزيد الموقف السوري ضعفاً في هذا الملف ما تردد عن مغادرة ضباط سوريين كبار، واجتماعات لضباط سوريين في عواصم غربية، وتحالفات بين قوي المعارضة السورية في الخارج بغية تغيير الوضع سورياً، وكل ذلك يمكن أن يجد آذاناً صاغية من قبل أمريكا لتحقيق أهدافها فيما يتعلق بسوريا.
وتحت ضغط هذين الملفين تبدو سوريا علي أبواب مواجهة أمريكية جادة هذه المرة في إحكام الطوق علي رقبة النظام فيما اكتفت سوريا حتي الآن بردود تقليدية وتجاهل ملحوظ لا تخطئه عين المراقب للقناة الفضائية السورية التي لا تكاد تذكر أن ثمة أزمة في هذا الجانب.
والحقيقة أن اتهامات زاد والتي عززتها تحذيرات بوش من أن سوريا قد تعرض نفسها لمزيد من العزلة وكذلك تقرير ميليس الذي ربما ستظهر تداعياته خلال عدة أيام يضعان استقرار النظام في سوريا خلال المرحلة المقبلة موضع تساؤل وقد يفتحان الباب أمام قرار جديد لمجلس الأمن للتأكيد علي ضرورة التعاون في الملفين العراقي واللبناني مع التهديد بفرض عقوبات دولية.
لقد أصبحت سوريا طرفاً مباشراً اليوم في الأزمة الأمريكية في العراق وكذلك الأمر بالنسبة لقضية اغتيال الحريري ولن يعفيها من مسؤولية الاتهام في الملفين مواجهة الأمور بأعصاب باردة فقط والاكتفاء بنظرية المؤامرة أو المراهنة علي الشعب الأمريكي بأن ينتفض ضد بوش أو تجنب اللقاء مع الأمريكيين سواء علي مستوي شخصي أو علي مستوي قمم بحجم قمة الأمم التي عقدت في نيويورك وانتهت بالأمس.
الملفان يحتاجان إلي حكمة وروية من جانب سوريا لتفويت الفرصة علي أمريكا إذا كان ادعاؤها باطلاً أو تجنب الاضرار علي قاعدة أهون الشرين بدلاً من أن تتقاسم سوريا الموت والدمار والخراب كما حل بجارتها في العراق وهو خيار قد تلجأ إليه الإدارة الأمريكية قبل أن تغادر البيت الأبيض!