يموج المجتمع السوري، بحراك سياسي لم يشهده منذ عقود طويلة، حيث لا يكاد يمر يوم، إلا وهناك ندوة أو ملتقي للحوار أو بيان أو تصريح أو عريضة صادرة عن التيارات والمجموعات السياسية السورية المعارضة، من عربية وآشورية وكردية، أو من لجان ومنظمات المجتمع المدني والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، علي امتداد الوطن السوري وخارجه، تطالب النظام بضرورة الإسراع في الإصلاحات السياسية وتحذر من مخاطر استمرار النظام في الاستجابة للضغوطات الخارجية وتجاهل نداءات المعارضة الوطنية ومطالب الشعب السوري المتمحورة حول، الديمقراطية والحريات السياسية وتداول السلطة ومكافحة الفساد المالي والإداري وتحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي للشعب السوري، الذي لم يعد ينشغل بالحديث عن أهمية وضرورات التغيير في سورية، وإنما ما يبحث عنه ويناقشه في هذه الأيام هو آليات التغيير وطرائق تحقيقه سلمياً، ومن غير أن تتعرض البلاد لمكروه. وفي أروقة (المعارضة السورية)، في الداخل والخارج، يدور جدل حول أهمية دور (العنصر الخارجي) في إحداث التغييرات والإصلاحات التي تطمح بها وتعمل لأجلها. لا شك، أنها تؤكد باستمرار رفضها لكل أشكال الاستقواء بالخارج والتمويل الخارجي لها، بالرغم من يأسها من النظام ومن ضعفها وعجزها عن تحريك الرأي العام السوري باتجاه مطالبها، لكنني لا أعتقد بان (المعارضة السورية) ستبقي علي ثبات موقفها من مسألة، علاقة الداخل بالخارج، إذا ما استمر النظام في محاصرتها والتضييق عليها، واليوم هناك شبه اجماع لدي المعارضة السورية، في الداخل والخارج، علي ضرورة الاستفادة من هذا المناخ الإقليمي والدولي المناسب والضاغط علي المنطقة باتجاه التحول نحو الديمقراطية.
من يقرأ ويتتبع ما تكتبه الصحافة الغربية، وما تتناقله بعض الصحف ووسائل الإعلام العربية، حول الشأن السياسي السوري وتحرك الإدارة الأمريكية باتجاه(تغيير النظام) في سورية ـ بدءاً من قانون محاسبة سورية وتحرير لبنان، وما كتبه الفرنسي(جون بول ماري) في 22ابريل الماضي في جريدة (لونوفيل أوبسرفاتور) الفرنسية تحت عنوان(سقوط إمبراطورية الأسد)، وقبل أسابيع صدر في أمريكا كتاب بعنوان (وراثة سورية: دفع بشار إلي خط النار) لـ(فلينت ليفريت)... وقرار الإدارة الأمريكية الأخير بتمويل المعارضة السورية ـ تبدو له سورية وكأنها علي أبواب مرحلة سياسية جديدة مفتوحة علي كل الاحتمالات، تبدأ بسقوط نظامها السياسي. لكن من يذهب للعاصمة السورية (دمشق) ويسمع المسؤولين السوريين والإعلام السوري الرسمي، خاصة فترة وبعد انعقاد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم الذي مدد ولاية البعث في الحكم حتي إشعار آخر، يبدو له وببساطة شديدة أن (النظام السوري)، غير معني مطلقاً، بكل هذه المعمعة والجعجعة السياسية التي تثار حول إمكانية استمراره وبقائه بعد العاصفة التي أثارتها جريمة اغتيال الحريري والانسحاب القسري للجيش السوري من لبنان الذي أفقد سورية أخر أوراقها الإقليمية. فهل هذا التجاهل من قبل النظام لما يشاع عنه، هو دليل قوة وثقة بقدرته علي الصمود في وجه العاصفة؟أم أن هذا التجاهل، يعكس عجز النظام عن تدارك مصيره وقراءته الخاطئة لما هو جديد في الإستراتيجية الأمريكية وفي توجهات السياسة الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة وأحداث أيلول 2001؟
نظراً لطبيعة وخصوصية (النظام السياسي) السوري المنغلق علي نفسه والمركزية المطلقة في ادارة البلاد واتخاذ القرارات السياسية، من الصعب جداً علي أي محلل أو مراقب ومهتم بالشأن السوري، الإجابة علي مثل هذه الأسئلة الكبيرة. لكن ما من شك، بأن (النظام السوري) قد ضعف في السنوات الأخيرة وهو لم يعد قوياً كما كان في أيام الرئيس الراحل (حافظ الأسد) مؤسس هذا النظام، ولما كان يمثله من شخصية كاريزمية إلي حد ما، فبرحيل الأسد، الأب، خسر النظام السوري أحد أهم أسباب قوته، خاصة وان رحيل الأسد أتي في ظل نظام عالمي جديد ومغاير في توجهاته وفي شروط وظروف تأسيسه. ومهما حاول النظام تجاهل حجم المخاطر المحدقة بسورية والظهور بمظهر القوي الذي لا ينحني للعاصفة، لا يستطيع أن يخفي مشاعر القلق والإحباط التي تسيطر علي الشارع السوري هذه الأيام، بفعل الخطر الذي يتحسسونه ويهدد وطنهم، أنه خوف مركب أو مزدوج، مصدره الأول: الخارج القوي الضاغط، خاصة من الثور الأمريكي الهائج المجروح في العراق، والثاني: الداخل الضعيف والهش، نظاماً ومجتمعاً، إذ لا يمكن أن يتواجد نظام سياسي قوي من غير بنية سياسية وفكرية واجتماعية متكاملة ومتماسكة ومن غير قاعدة اقتصادية قوية. فلم يعد خافياً علي أحد، بأن المجتمع السوري، لم يعد، كما كان، محصناً متماسكاً، حيث تعمقت فيه الانقسامات العمودية واختلت المعايير والولاءات الوطنية لصالح الانتماءات الطائفية والفئوية والجهوية والقبلية والإثنية، التي نمت في ظل مناخات سياسية واجتماعية وثقافية وأخلاقية غير صحية ولا ديمقراطية عاشها المجتمع السوري طيلة الحقبة الماضية. وقد بدا واضحاً أن حالة الاستقرار والهدوء التي اتصف بها المجتمع السوري طيلة العقود الماضية، لم تكن سوي حالة ركود وكساد قسرية، بسبب الخوف من النظام الشمولي القابض علي كل مفاصل الحياة السورية، وقد جاءت الظروف والتطورات الإقليمية والدولية الأخيرة، لتحرك المياه الآســـنة في المجتمع السوري، الذي شهد في السنوات الأخيرة حوادث عنف واضطرابات، تشير إلي حصول تراجع خطير ومخيف في مسار الحياة الوطنية السورية، كما هناك خشية حقيقية من حصول اسطفافات واستقطابات علي أسس أثنية وطائفية مذهبية وجهوية ـ هذا إذا لم تكن قد بدأت فعلاً ـ ومن أن تصبح هذه التكوينات المحرك الأساسي للحياة السياسية والاجتماعية في سورية، وتتحول الي كيانات سياسية معزولة في المجتمع السوري، يصعب حينها تجاوزها والقفز فوقها، كما هو حال المجتمع اللبناني وكما هو حاصل اليوم في المجتمع العراقي، الذي لا يختلف كثيراً، في بنيته وتركيبته، عن المجتمع السوري.
في خضم هذه الأوضاع، المحلية والإقليمية والدولية، الضاغطة والتي تفرض جملة من التحديات والاستحقاقات علي سورية ونظامها السياسي، يأتي انعقاد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم، لكن بكل أسف ما خرج به المؤتمر من نتائج وتوصيات وقرارات لم تكن بمستوي مواجهة التحديات والتصدي للمخاطر الجسيمة المحدقة بالوطن ولم تزيل أو تخفف من مخاوف (فوبيا) السوريين من التغيير القادم، ولم تبعث الأمل والطمأنينة في نفوسهم.
فهي لن تكون أكثر من إجراءات وتغييرات شكلية في مجال الإدارة والاقتصاد وتوصيات بإصلاحات محدودة، لا تمس جوهر النظام وسلطة البعث، فقد بقيت معظم قرارات وتوجهات مؤتمر البعث، أسيرة عقدة استمرار النظام وبقاء البعث في الحكم، قائداً للدولة والمجتمع. طبعاً من غير الوارد قطعاً، أن يقوم نظام البعث بانقلاب علي نفسه، خاصة في غياب تيار ديمقراطي إصلاحي حقيقي فاعل داخل البعث يؤمن بالديمقراطية ويعمل لأجلها، كخيار سياسي وآلية لتداول السلطة، فوجود مثل هذا التيار الديمقراطي البعثي، أجده شرطاً ضرورياً ولازماً، لحدوث أي تحول ديمقراطي حقيقي سلمي وهادئ في سورية في هذه المرحلة.
لا شك، أن القوي الرافضة للتغيير والمستفيدة من الوضع القائم في سورية، تعمل علي تغذية مخاوف (فوبيا) السوريين من التغيير، مخاوف السلطة والشعب معاً، من خلال الترويج لمقولات: (غياب البديل المناسب، استيقاظ القوي الإسلامية النائمة في المجتمع، ضعف قوي المعارضة الوطنية الديمقراطية المدنية، هناك مؤامرة تستهدف وحدة البلاد وأمنها واستقرارها).