حين كان الصراع"البارد" محتدماً بين المنظومتين العالميتين السابقتين،استطاع الرئيس السوري "حافظ الأسد"،وكما هو معروف،اللعب بمهارة وبراعة مشهودتين على الحدود الفاصلة ما بين هاتين المنظومتين وعلى رأسيهما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية.
وبينما كان النظام السوري " المشاغب" يجلس في حضن الاتحاد السوفييتي ويرضع من حليبه،ويتلقى دعمه ومؤازرته بلا حدود،فقد كان باستطاعته على الدوام التهرب من دفع ضريبة مغامراته و "حماقاته" الموجهة ضد "بعض"المصالح الأمريكية والغربية!.
واستطاع "الأسد" بذلك إظهار نظامه كقوة إقليمية،ذات وزن ،أمسك بمهارة من خلالها، بمفاتيح الساحتين اللبنانية والفلسطينية وتحكم بهما.كما استطاع تجيير هاتين الورقتين للحصول على كثير من المكاسب التي ساهمت بشكل كبير في تقوية نظامه،واستقراره،وإمداده بأسباب البقاء.
ورغم الكثير من التصرفات التي كان النظام السوري يسبب بها الغيظ للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها،إلا أنه كان بشكل عام يعرف متى يتوقف وأين تقع الخطوط الحمراء المتعارف عليها دوليا وإقليميا.فلم يكن يسمح لنفسه ولا لحلفائه الفلسطينيين أو اللبنانيين بتجاوزها.وبهذا فقد نال بشكل ما،الرضى الضمني من الجانب الغربي والإسرائيلي،والموافقة المبدئية على وجوده داخل هاتين الساحتين،مادام محققا لمعادلات التوازن المناسبة لمناخات الحرب الباردة.
بعد انهيار المنظومة الاشتراكية"غير المتوقع"،بدأت تتشكل معادلات جديدة،أخذت تتضح معالمها رويدا رويدا إلى أن أخذت شكلها النهائي بعد الحادي عشر من أيلول 2001،وتفجير برجي التجارة العملاقين في نيويورك.
وبعد ظهور النجم الأمريكي وحيدا في سماء السياسة العالمية،كان لابد في البداية من تصفية بعض الحسابات العالقة في بعض المناطق،وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط،تصفية نهائية،بما يتناسب مع المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة،وبما يقطع الطريق مستقبلا على أي تهديد لتلك المصالح.
وأخذت الأنظمة العربية تتلمس رؤوسها بعد أن أكلت أمريكا الثور العراقي"الأبيض"،وبعد أن ظهرت على ساحة التداول السياسي مفردات ومصطلحات مرعبة بالنسبة لتلك الأنظمة،كنظرية الدومينو،والفوضى الخلاقة،ومشاريع شرق أوسط جديد،وحقوق الإنسان،والديموقراطية...الخ.
وسرعان ما بدأت تلك الأنظمة بتبديل جلودها بما يناسب الهوى الأمريكي،وأعلنت عن رغبتها بدخول بيت الطاعة وركوب القطار الأمريكي.
النظام السوري كان الوحيد تقريبا الذي لم يستوعب هذه التغيرات العاصفة،ولا أن يرى المعادلات الجديدة الناتجة عن انتهاء "ربيع"الحرب الباردة.وبالأحرى فإنه وبحكم قانون العطالة لم يستطع أن يكيف نفسه لمجاراة التغيير الكبير الحاصل،وبالتالي فإنه كان من الطبيعي أن يظهر،إقليميا، كعصفور مغرد وحيد!!.
بعد احتلال العراق وإنهاء نظام "البعث" التوأم ،أخذت معظم الأوراق تفلت من بين يدي النظام السوري بشكل درامي،وبدأت اللكمات الأمريكية توجه إلى ما تحت الحزام السوري،لكمة إثر أخرى،حتى جاءت الضربة القاضية عن طريق اغتيال "الحريري" ،ومسارعة كافة القوى المعادية "تاريخياً" للنظام السوري بإدانته ،وإجباره على الخروج من لبنان،وبدء التحقيق معه ومع الأطراف اللبنانية التابعة له،تمهيداً لمحاكمته محاكمة سياسية بامتياز.وتحديد مقدار العقاب اللازم والكافي لقصقصة جناحيه وحرمانه من معاودة التحليق إلى الأبد.
بالتأكيد،فإن ما أوردناه أعلاه لا يتجاوز السرد الإنشائي الممل،والذي نعترف مسبقاً بأنه لم يأت بجديد.لكنه برأينا مقدمة لابد منها للدخول في صلب الموضوع المطروح.ألا وهو محاولة الإجابة على الأسئلة الذي تدور في أذهان الجميع تقريباً:
ما هو مقدار العقاب الذي ستفرضه "الشرعية"الدولية على النظام السوري؟كتصفية حساب مع سياساته السابقة.
وهل سيصل الأمر بعد "تسييس" تحقيق "ميليس" !،إلى حد العمل على إسقاط هذا النظام؟
وهل المطلوب تغير النظام ككل أم النيل من بعض الوجوه الرئيسة ،وإبدالها بوجوه أخرى أكثر إمتاعا ومؤانسة؟!.
هذا ما سوف تحاول بإمكاناتنا المتواضعة ملامسته،ولو من بعيد .
بعد القضاء على نظام"صدام حسين"،بدأت المؤسسات الإعلامية الكبرى المرتبطة بمراكز القرار الأمريكي والإسرائيلي بوضع النظام السوري تحت المجهر الإعلامي،لغاية في نفس يعقوب،وفي نفس صقور الإدارة الأمريكية ومشاريعها ومخططاتها الاستراتيجية،التي نجهد،كما الجميع،في محاولة فهم "ألف بائها"،دون أن نفلح في أكثر الأحيان إلا بملامستها ملامسة سطحية،نظراً لغياب الشفافية الإعلامية من جهة،ولافتقارنا لمنهج تحليلي يمكن الوثوق به،والركون إليه من جهة أخرى!.
وفي سعيها للتأكيد على أن هدف الحملة الأمريكية المعلنة اليوم ضد النظام السوري،هو إسقاط هذا النظام،فإن وسائل الإعلام العربية تلعب (بحسن نية أو بسوئها) دوراً تضليلياً فائق الخطورة !!.
ومن المعلوم أن مصادر أخبارها والتحليلات المبنية على أساسها تأتي بشكل مباشر من المؤسسات الإعلامية آنفة الذكر.
وحتى لا نغرق في العموميات،فإن جريدة"السياسة"الكويتية تعتبر نموذجاً فاقعاً لوسائل الإعلام العربية التي تقدم لنا أطباق التضليل والأوهام المترعة بشتى أنواع المشهيات الإخبارية الملفقة قلباً وقالباً..في الغالب الأعم..!.
فرئيس تحرير هذه الجريدة،الذي أخذ العداء المستحكم بينه وبين النظام السوري يأخذ طابعاً شخصانياً لا تخطئه عين،قرر على ما يبدو أن الحرب النفسية ،عن طريق اختلاق الأكاذيب والترويج لها،هي جزء شرعي من حربه العادلة التي يعتقد بأنه يشنها على هذا النظام!.
وبغض النظر عن أسباب هذا العداء المستحكم بينه وبين النظام السوري،وبتركيزه هذه الأيام على الأسباب التي يعتقد بأن الولايات المتحدة عازمة لأجلها على الإطاحة بهذا النظام،فإنه دون أن يدرك،يجمِّل صورة الحكم السوري بنواح كثيرة.
إذ أن الأمريكان ومن ورائهم الفرنسيين والإنجليز يعتبرون بأن نظام دمشق يدعم المقاومة العراقية الرافضة للغزاة،ويقدم يد العون للمنظمات الفلسطينية الراديكالية المطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية،ويدعم" حزب الله" في سعيه لتحرير باقي الأراضي اللبنانية بعد دحر آلة الحرب الإسرائيلية من الجنوب بشكل مهين،وبقدم أقصى المساندة والتأييد للقوى اللبنانية الوطنية...الخ.
وبهذه الصورة،وبعد أن تردده"السياسة" وكثير من وسائل الإعلام العربية الأخرى،بشكل ببغائي،فإنه لا يسع المتابع إلا أن يكن الاحترام للنظام العربي الوحيد الذي يقف "وحده" إلى جانب المطالب الوطنية العادلة للشعوب العربية!.
فهل الأمر كذلك؟!!.
نحن ،وبثقة مطلقة،لا نعتقد ذلك!.
فالخلاف على ما تسميه أمريكا الدعم السوري للإرهاب على تلك الساحات،وما تسميه سوريا دعم المقاومات العربية"الباسلة" ليس في نهاية المطاف خلافا جوهريا،والأحرى أن الطرفين يعرفان ضمنا بطلان هذه الأكاذيب!.
جوهر الخلاف هو بالضبط على تفاصيل السماح للنظام السوري بركوب القطار الأمريكي.
وهذه التفاصيل على تنوعها وتشعبها تنحصر في مطلب أمريكي واحد :إعادة إنتاج النظام السوري بشكل جديد،بحيث يتماشى مع المخططات الأمريكية للمنطقة(شرق أوسط كبير،على سبيل المثال).
ولتحقيق هذا الهدف يطالب الجانب الأمريكي نظيره السوري تقديم الكثير من التنازلات على الصعيدين الداخلي(المتمثل بإعطاء هامش من الحريات للمعارضة المعتدلة،ووضع الخطط الجذرية لإصلاح الاقتصاد..الخ)،والخارجي(المتمثل بالقبول الكامل بالقرارات الدولية المتعلقة بالسلام مع إسرائيل..الخ).
الأمر الذي تعتبره دمشق سيؤدي لإضعاف سلطتها وسيطرتها على مقاليد الحكم المطلق.
من جانب آخر،فان النظام السوري يملك ورقة أخيرة،لكنها في غاية الأهمية ما فتئ يلوح بها بمناسبة وبدون مناسبة.ألا وهي ورقة الاستقرار"العظيم"،والذي يحاول ربطه على الدوام باستقرار وأمن إسرائيل!!.
فيعمد حينا إلى المبالغة في دوره بمكافحة الإرهاب،وتارة أخرى يوحي بأن الساحة مهيأة لبروز تنظيمات إرهابية إسلامية قد تخلق الكثير من المشاكل للجارة العدوة فيما لو غاب النظام القوي.
وهكذا،فإن الفهم الأمني السوري المبتذل للاستقرار يعارضه الفهم "الاستراتيجي" الأمريكي لهذا الاستقرار!.
كذلك فإن"الفوضى الخلاقة"التي ابتدعها صقور بوش،يمكن استخدامها في أي مكان من الشرق الأوسط،كالعراق مثلا،لكن لا يمكن استخدامها مطلقاً على الساحة السورية!.ولهذا فنحن لا نعتقد بأن أمريكا سوف تلجأ إلى أساليب الحسم(العسكري مثلا)للإطاحة بالنظام السوري.
ويعود السبب ،برأينا المتواضع، أيضا إلى الحدود السورية الإسرائيلية المشتركة بلا ريب.
فرغم" مشاغبات "النظام السوري التاريخية إلا أنه لم يقم على الأقل منذ أكثر من ثلاثين عاما،بخرق التفاهمات الدولية وإعلانات الهدنة على الحدود.بل أثبت أنه الوحيد من بين دول الطوق القادر على منع أية مشاكل على طول حدوده المشتركة مع إسرائيل.وهو بهذا بكون قد أثبت للعالم أجمع بأن استقرار الداخل السوري ولو بقبضة من حديد كفيل باستقرار حدوده مع إسرائيل.
بهذا الربط بين قدرته على الإمساك القوي بالسلطة والاستقرار الداخلي وبين مصلحة إسرائيل تصبح الورقة الأخيرة التي يلعب بها النظام اليوم مفهومة تماماً..
كما يصبح من الواضح أيضاً سبب عدم رضوخه الكامل لقرارات "الشرعية الدولية"،وإظهار نفسه"إعلامياً"بمظهر المدافع عن قضايا العرب وعن مقاوماتهم"الباسلة" من العراق إلى فلسطين مروراً بلبنان!.
إذا فان الولايات المتحدة الأمريكية تنوي ليّ ذراع النظام،وتطويعه بما يتلاءم مع التصور الأمريكي للاستقرار، وليس إسقاطه.وذلك لارتباط المصالح الإسرائيلية بوجوده و"استقراره"!.
وهكذا،فإن حدود العقاب الأمريكي المفترض لسوريا ،مهما كان موجعاً إلا أنه لن يصل لحد إسقاط النظام السوري.
من زاوية أخرى،يبدو الاستقرار السوري،مرتبط (حالياً) بشكل وثيق بوجود "بشار الأسد"على رأس السلطة تحديدا.بسبب التمهيد الذي قام به "الأسد "الأب طوال عقود من حكمه،والذي أدى إلى خلو الساحة،على ما نعرف،من أية "كارزمات" قادرة على تحقيق الاجماعين الشعبي ومراكز القوى السلطوية عليها بشكل أكيد.
إذا فان الاستقرار السوري مطلوب بشدة أمريكيا،لتأثيره المباشر على عدة ساحات ..... إسرائيلية،وعربية،و...كردية ربما!.
فنصل إلى الاستنتاج المفارقة:
أن الإدارة الأمريكية لا تنوي إسقاط النظام بل على العكس تقويته عبر إجباره على إصلاح وتجميل نفسه بما يتوافق مع الرؤى الأمريكية،وإعادة إنتاجه من جديد بحيث يكون قادرا على ضبط ساحته وتأمين استقرارها بشكل"استراتيجي"،دون النظر إلى المصالح الآنية الضيقة لمراكز قوى النظام،التي بالأحرى ستحاول أن تزيحها من طريق الرئيس "بشار الأسد".ومن ثم تحويل هذا النظام الجديد إلى حليف فعال وحارس أمين على المصالح الكبرى للولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها الدائمة إسرائيل!!.