من بؤس الاحتفال الرسمي العربي بفك الارتباط وفداحة الاحتفاء بشجاعة شارون أن وجههما الآخر شباب يهجمون بالآلاف على خرائب مستوطنات. يبدو الهجوم بداية كأنه يعيد ويستعيد الهجوم على الباستيل او على قصر الشتاء، ولكن ما ان يصل حتى ينقلب فورا ودون تدريج من إغارة الى نوع من الحيرة والارتباك يجدون خرابا وركاما فيقفون وينظرون ويصفنون، لا شيء، عدم. فجوة كبيرة بين ضجة وفوضى الهجوم وهزالة الموقف الذي يقفه. كم كان المشهد معبرا. تدفق بشري تعقبه وقفة، ثم ماذا نفعل؟ لا شيء، ليس هنالك ما يمكن فعله. لا قصور صدام ولا قصور سان بيترسبورج.
لا يوجد شيء يستحق الذكر في مناطق الاستيطان “الاسرائيلي”. تركوا أفخاخا وقنابل سياسية موقوتة على شكل كنس بنمط البناء الاستيطاني لا تشبه قصورا ولا كنائس، ابقاها شارون لكي يعبث بالحالة الفلسطينية، فإن ابقاها الفلسطينيون يكونوا كمن أبقى مسمار جحا، وإن هدموها ساووا بينها وبين هدم المساجد منذ النكبة، وهي مقابلة حاضرة ومقارنة ناجزة في سياقات راهنة تساوي بين المحتل والواقع تحت الاحتلال، بين كنس المستوطنين ومساجد الاصليين.
إزاء ما نظم وتفجر عفويا من احتفال بتحرير غزة، وإزاء الحفاوة التي استقبلت شارون في الامم المتحدة حتى ارتعش صوته لعكس سبب الاحتفال بالضبط، أعلن شارون أنه مستمر في بناء الاستيطان رغم معارضة الولايات المتحدة. ولكي نفهم العلاقة بين الحفاوة والخطاب الديني اليهودي الأصولي الذي تخلل خطابه وبين ارتعاش صوته تأثرا وهو المنبوذ في هذه المحافل حتى فترة وجيزة، يبدو أنه لا بد من العودة الى الأساسيات. كانت الغيبية سمة خطاب شارون الذي بدأ بسفر التكوين مرورا بالقدس زحفا زحفا نحو الأبد... احتلال “الابد” و”الازل” لتصبح مجرد خدم عنده. وتتمخض عن استخدامها مقولات سياسية باتت مشروعة فجأة على منصة الامم. هذه المنصة الواقعية البراغماتية تصفق كما يبدو للابد وللغيب ولانعدام الواقعية اذا تطلبت الواقعية ذلك.
في خطابه يوم 15 سبتمبر/أيلول أمام هيئة الأمم لم يكتف شارون بالحديث عن نفسه كمزارع “تحول الى مقاتل رغما عنه”، ولا بالحديث عن أهله “الذين جاؤوا ليفلحوا الأرض لا ليسلبوا أحدا أرضه”، (من يدري ربما وجدوا دولة بالصدفة خلال فلاحتهم للأرض)، ولم يكتف بالحديث عن حق اليهود التاريخي الديني التوراتي “على البلاد”، وذلك خلافا لحق غيرهم “في البلاد” (انتبه للفرق!! الفرق واضح بالعبرية على الاقل التي استخدمها في خطابه)، ولم يكتف بالبدء بخمسة آلاف عام و بمجيئه “من القدس عاصمة اسرائيل الأبدية”، بل استثمر أيضا كما هو متوقع خطة فك الارتباط لغرض براغماتي الا وهو رمي الكرة في الملعب الفلسطيني.
يعلمك شارون أن البراغماتية والغيبية متشابكتان في نظر العقلانية والحداثة “الاسرائيلية” التي تبدو منتصرة ليس على العرب، بل على الأصولية واللاعقلانية العربية. كأننا في صراع حضارات. ولا حضارات ولا يحزنون. الحضارات لا تتصارع بل البشر. وعندما تخدم الغيبية هدف البشر العيني تصبح براغماتية والعكس صحيح. إنهما تتبادلان باستمرار، ادوار الهدف والوسيلة في أداتية العقل وفي سياسات القوة. ولا علاقة بين النجاح ومدى عقلانية الخطاب، بل العلاقة هي بين النجاح والقوة. والعقلانية متمثلة في العلم وبناء المؤسسات والحداثة هي من عناصر القوة.
الغيبية “الاسرائيلية” منتصرة في مقابل غيبية مهزومة “شرشوحة” بلا مؤسسات. تفرط في العقلانية أكثر مما يلزم لتبرير تقبل الهزيمة وضعف الإرادة، وتغدو غيبية عندما يدور الحديث عن بناء مؤسسات وديمقراطية ومجتمع حديث. تحولت الغيبية الرسمية العربية الى براغماتية رسمية مطلقة مفصولة عن القيم، وتحولت الأخيرة اليتيمة من السياسة الى غيب مطلق ترك للشارع يعبث به.
يجلس العرب ويستمعون لشارون ولا ندري هل يلعنون في السر من حرمهم من الاستماع اليه من قبل ام يلعنون الذي كان السبب في جلوسهم للاستماع له. ولفهم ما يجري لا بد من العودة الى اساسيات منسية.
ومنها أنه كما ساهم قيام “اسرائيل” في تعميق التخلف العربي والاستثنائية العربية، وكما تمخض استمرار حالة القضية الفلسطينية منذ عام 1948 عن الحالة العربية المهترئة، كذلك لا تحل القضية الفلسطينية حلا عادلا خارج جهود حل القضية العربية. التسوية ممكنة بانفصال عن القضية العربية وبالتسليم بتعقيداتها، ولكن ليس الحل العادل. والعدالة ليست مسألة غيبية، بل هي قيمة. وتطبيقها في السياسة والتاريخ يكون نسبيا طبعا، ولكنها تتخذ سمة الاطلاق: إما كل شيء او لا شيء عندما تتخلى عنها السياسة المهيمنة بشكل مطلق، فتتحول هي الى معارضة مطلقة تنجب بدورها أشكالا من غياب العدل. لا يوجد حل عادل بشكل مطلق حتى لقضية عادلة، ولكن من ناحية أخرى لا يجوز أن يغيب العدل عن حل قضية عادلة.
لا تفرز الحالة العربية الحالية حلا عادلا للقضية الفلسطينية ولا يمكنها ذلك. وبالعكس فهي تسعى ببراغماتية متناهية أن تقنع الفلسطينيين بقبول ميزان قوى هي جزء منه، وبقاؤها مرهون بقبوله والخضوع لابتزازه.
وفي ظل هذا المزاج السياسي، وفي ظل هذه الحالة يتم تصوير الانسحاب “الإسرائيلي” من قطاع غزة كجزء من خارطة الطريق التي تحولت بدورها إلى مطلب رغم أن مؤلفها قد فسرها تفسيرا “اسرائيليا” عبر رسالة الضمانات التي وجهها الى شارون. وفي ظل هذا المزاج السياسي يتم استقبال شارون في الامم المتحدة في ايام صبرا وشاتيلا كمن قدم “تنازلات مؤلمة”.
لا بد ان نفهم أن هذه جميعا من مظاهر تفاقم قضية عربية غير محلولة. ولا اقصد ان حلها يتطلب بالضرورة انجاز الوحدة العربية او حق هذه الامة في تقرير مصيرها. ماذا؟ حق تقرير المصير للامة العربية؟ ولكن لم يكن لها في الماضي دول عربية موحدة. هذا ليس الرد الصحيح فغالبية الامم التي اقامت دولا لم تملك دولة موحدة في الماضي. أو تشكلت حديثا. ولا توجد اسباب منطقية نظرية لعدم تمكين العرب من اقامة دولتهم القومية الموحدة التي يشكلون فيها أغلبية، كما لا توجد اسباب نظرية منطقية لتمكينهم من ذلك. الكثير من الدول موجود دون سبب منطقي نظري مبني على تعريف نظري للقومية، وكذلك لم يتسن لبعض الامم اقامة دول، وتسنى لبعض الدول اقامة امم. وكل ذلك ليس لأسباب منطقية ونظرية. هنالك في الحالتين أسباب تاريخية وعملية. ولذلك نحن لا نقصد حلا نظريا للقضية العربية بل حلولا سياسية عملية في سياق الظروف التاريخية المحددة.
ولا يتم البحث عن حلول للقضية العربية من أجل حل القضية الفلسطينية حلا عادلا، او لنوفر على انفسنا شكل العرب وهم يستمعون الى شارون. فهذا كلام فارغ يذكر بمن يطالب بحق المرأة بالمساواة مع الرجل لان المرأة ساهمت في المعركة ضد الاحتلال، أو لان ذلك يساعد المجتمع في معركته ضد “اسرائيل”، وذلك بدل القول ان المساواة قيمة انسانية وضرورة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
لا حل عادلاً للقضية الفلسطينية دون حل القضية العربية. هذا تحليل. ولكن الموقف يجب ان يكون حل القضية العربية من اجل العدالة والحرية والديمقراطية في المجتمعات العربية.
لم تتجل هذه الأمور بهذا الوضوح كما تبدو حاليا وسط هذا الركام العربي. ولا يجوز ان يكون التخلي عن الهوية العربية او التساؤل عما تعنيه حاليا هو الاستنتاج من حالة الانهيار. بل التساؤل هو: لماذا تنكر الهوية العربية ويتم التأكيد على غيرها، ويتم الاستماع باهتمام الى حديث شارون الاصولي الأسطوري عن خمسة آلاف سنة لم ينقطع فيها الوجود اليهودي على ارض فلسطين؟ لن نفند الاسطورة نظريا. ولكن تكرارها يذكر بموقف المستمعين من العروبة كأنها أسطورة. ونحن ندعي فقط أن حالة الانهيار الحالية تتعدى الاسطورة العربية الى نسيج الدولة الوطنية، في كل مكان تقريبا. وان هذا دليل على فداحة تجاهل وجود قضية عربية.
الظواهر التي نشهدها حاليا من محاولات للتطبيع مع “اسرائيل” او قراءة شارون كأنه ديجول جديد وتهنئته على افكاره الشجاعة، هي تعبيرات عن القضية العربية وليست خيانة للشعب الفلسطيني. فليس هنالك عقد زواج بين القيادات الرسمية العربية والشعب الفلسطيني. والتضامن معه في حالتها هو اسطورة مثل مقولة التضامن العربي الرسمية. فقد تراوح موقف الأنظمة العربية من قضية الشعب الفلسطيني بين استغلالها داخليا لأغراض الديماجوجيا الوطنية الكاتمة للصوت الاجتماعي والديمقراطي وبين الايمان الفعلي انها قضية العرب الاولى ورفع هذا الاعتقاد الى مصاف الايديولوجيا، بين الرومانسية المتمخضة عن التهاب الجرح العربي والانتهازية البراغماتية وتبادل الادوار بينهما من جهة، وبين ادراك عمق تفاعل الناس مع القضية الفلسطينية من جهة أخرى، وهو تضامن حقيقي وتعويضي في آن معا. وهو حقيقي وتعويضي لان القضية الفلسطينية كانت عربيا موضوع تضامن حقيقي، ولأنها كانت في الوقت ذاته الصيغة، اللغة التي صاغت فيها الجماهير بشكل شرعي شكواها من الاوضاع القائمة. من هذه الناحية لعبت شرعية الخطاب حول القضية الفلسطينية وتصدير التناقضات الاجتماعية وترجمة كافة لغات المعاناة الى اللغة الفلسطينية دور شرعية الخطاب الديني وشرعية المسجد في سياقات أخرى.
ولم تعد القضية الفلسطينية قادرة على لعب هذا الدور. أولا لأنها باتت في اتكالها على حسن نية امريكا كاستراتيجية وحيدة جزءاً من الحالة العربية الرثة الى درجة فقدان الهيبة. فقد باتت تتعرض للنقاش الذي كانت فوقه بل تمتصه وتحتويه كما تتعرض القيادات العربية. وثانيا لأن القضية العربية تفاقمت الى درجة ان التناقضات المختفية خلف القضية الفلسطينية باتت تفوقها دموية واهتماما دوليا واقليميا. كانت القضية العربية جوهر القضية الفلسطينية بشكل غير مرئي يتجلى في التحليل النظري فقط، اما حاليا فقد تجلت هذه الحقيقة بكل دمويتها. وكانت “اسرائيل” دائما تدعي ان القضية الفلسطينية ليست جوهر الصراع في المنطقة بل طبيعة الانظمة العربية. ويبدو ان امريكا تبنت هذا الموقف “الاسرائيلي” التاريخي. ولكن الحقيقة التي يجب وضعها على ارجلها ان طبيعة الانظمة وليس القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع في كل بلد عربي. اما جوهر الصراع مع “اسرائيل” فهو القضية الفلسطينية، ولكن فقط كجزء من القضية العربية. واذا فصلت عنها ووضعت بايدي الانظمة هان قبول الاملاء “الاسرائيلي” بموجب موازين القوى كأنه تسوية.
من اجل القيام بالمهام الديمقراطية ومهام التحديث في الوطن العربي يفترض ان يدرك من يريد الاضطلاع بهذه المهام ان هنالك قضية عربية. وهذا احد الفروق بين أجندة الديمقراطية العربية والاجندة الاستعمارية ومروجيها المحليين. ليس من الضروري ان تحل هذه القضية العربية حلا وحدويا، الا اذا كان ديمقراطيا بين ديمقراطيات تعتمد المواطنة المتساوية. وفي كافة الحالات يجب ويمكن حلها داخليا بوعي وجود الجماعة السياسية العربية التي تحمي من الجماعة السياسية الطائفية ومن الجماعة السياسية العشائرية والإقليمية. وحتى التوافقية والفدرالية في مثل هذه الحالة تجوز بين العرب وغيرهم بشرط ان يعترف بجماعة سياسية عربية.
تتجلى القضية العربية حاليا باعلان رسمي امريكي يحمله تدخل عسكري سافر بضرورة نزع الثقافة العربية كجامع ذي طابع قومي سياسي عن الشعوب العربية وتحويل الطائفية الى طائفية سياسية رسمية، ووضع علامة سؤال على الرابط السياسي بين الدول والشعوب العربية، كما تتجسد القضية العربية بهيمنة نموذج الدولة الريعية التي تعتمد بدرجة كبيرة على العائدات من الخارج دون استثمار كبير للعمل الاجتماعي، وعلى بيع سلعة مثل النفط او الايدي العاملة او الخدمات السياسية. والريعية رابط معترف به بين العرب ويتم تشجيعه الى درجة الموافقة عليه كرابط سياسي بينهم. والنفط عائق حقيقي أمام التطور الديمقراطي، وأساس حديث للإقطاع السياسي ولتكريس الدولة السلطانية داخل الحدود الاستعمارية... ومن تجليات القضية العربية حاليا الاعتماد الرسمي الكامل على امريكا كما كان الحال مع بريطانيا وفرنسا في الاربعينات، حتى بات اسم السفير الامريكي في أي دولة عربية معروفا اكثر من اسماء وزرائها. (ولا بأس من وضع تحد أن تتم المقارنة احصائيا بين معرفة اسم السفير الامريكي لدى الجمهور الواسع في الدول العربية واي دولة اخرى في العالم. ولا اقصد دولا مثل فرنسا حيث لا يعرف اسم السفير الامريكي احد غير المختصين، بل اقصد دول العالم الثالث). والآن باتت القضية العربية تتجلى بالتأرجح من المزاودة على الشعب الفلسطيني الى القول “اننا لن نكون اكثر فلسطينية من الفلسطينيين” عند الحديث عن التطبيع مع “اسرائيل”. ليس هذا التطبيع مشكلة الفلسطينيين بل هو تعبير عن مشكلة العرب، عن القضية العربية، مثل تعبيراتها الاخرى المذكورة اعلاه تماما مثل غياب الديمقراطية، ومثل غياب العدالة في سياقات أخرى.