هنالك من يفكر ان الطريق الأمثل لمنع كارثة هو التدخل العسكري الأميركي المباشر في باكستان وذلك قبل ان يفقد هذا «النظام المتداعي» السيطرة على أقاليم فتتخلع الدولة على طول خطوط إثنية وقبلية. صحيح أن من يكتبون هذا هم محافظون جدد باتوا محبطين جدداً، أمثال بول كاغان (من معهد «اميركان انتربرايز») ومايكل هانلون (معهد «بروكينغز»)، لكن صحيفة كبرى مثل «نيويورك تايمز» تنشر مقالهما. وربما تأخذ به أوساط حول مرشح للرئاسة مثل رودولف جولياني استمرارا لسيناريو الرعب المتمثل بوقوع اسلحة نووية في ايدي منظمات «الإرهاب الإسلامي»، والله أعلم.
لا يصدق المرء عينيه عندما يقرأ «نيويورك تايمز» (18 تشرين الثاني/ نوفمبر) عندما تتحدث عن الحاجة إلى مليون جندي، وأن نقلهم الى باكستان يتطلب سنة من العمل، وأنه لذلك لا بد في هذه الأثناء من دعم القوى المؤيدة لأميركا في باكستان، بخاصة من بين الموالين لها بين العسكر، إذ يجزم المقال أن ثمة قوى في صفوف الأجهزة الأمنية الباكستانية تتجسس لصالح «طالبان» و «القاعدة». و «يعتدل» الكاتبان اذ يدعيان ان نقل المواد النووية الى نيومكسيكو غير واقعي، وأن الأفضل هو حراستها بواسطة قوات من النخبة الباكستانية تدعمها وتراقبها قوات دولية.
لن تجد في المقال طبعا حتى كلمة واحدة حول رد السكان، الشعب، ولا عن المقاومة، ولا تعطيل الاقتصاد وآثار انحلال الدولة على البشر في مثل هذه الحالة. فمن الواضح أننا إزاء اناس مهووسين لا علاج لدائهم. وتصيب البدن قشعريرة من مجرد التفكير انه كان لهم قبل وقت قصير ما يقال في عملية صنع القرار في الامبراطورية عندما شنت الحرب على العراق. ماذا تعني مؤسسات مثل «بروكينغز» و «اميركان انتربرايز» أكاديمياً؟ نعرف ان المعهد الأول أكثر جدية من الثاني. ولكننا نعلم ايضا ان غالبية الرصانة والجدية تأتي من لفظ الأسماء بالانكليزية ومن موقعها في واشنطن. وفي ما عدا بعض الرصانة النادرة المتأتية من بعض الأوارق، الا أن هذه ليست مراكز علمية بل أوكار إيديولوجية للتخريف والهذر. ولو وجد مثيلها في اي دولة عالم ثالثية لكانت موضع سخرية بعض كتابنا النيو ليبراليين ولاتهمت باللاعقلانية والغيبية.
ربما تحاول «نيويورك تايمز» ان تظهر أنه بالمقارنة مع هذا الهذر والتخريف تبدو سياسة الولايات المتحدة في باكستان على تناقضاتها وعدم مثابرتها رصينة ومستفيدة من تجربة العراق. وربما يستفاد من واقع السياسات الأميركية أمر آخر، وهو أن الولايات المتحدة ما زالت تزن الأمور بمنظار جدلية العدو والصديق، وأنه لا بد من دعم الديكتاتور الصديق. لقد أشارت افتتاحية صحيفة «هيرالد تريبيون» (19 تشرين الثاني/ نوفمبر) إلى أن مجرد تبرير مشرف لخطواته بمخاطبة الرأي العام الغربي مباشرة هو أمر إيجابي يحمد عليه. فليس هكذا يتصرف ديكتاتور. ويبدو أن الديكتاتور الذي يستحق هذا الوصف هو من لا يرى حاجة ليبرر خطواته القمعية أو يشرحها للغرب، ولا يهم حتى إذا كان يشرحها لشعبه. لدينا تعريف جديد للديكتاتورية مثلما لدينا تعريفات عدة للإرهاب. الديكتاتور هو ذلك الذي لا يتفاهم مع الغرب حول أسباب تعطيل المؤسسات الديموقراطية وفرض الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ.
ليس بوش أول رئيس أميركي يتسامح مع ديكتاتور عسكري في باكستان، ولا هو أول رئيس يغض نظره عن ممارساته الداخلية، أملاً في أن تنجز هذه الدولة خدمات استراتيجية للولايات المتحدة مثل المساعدة على محاربة التدخل السوفياتي في أفغانستان، التي حولت حدودها مع هذا البلد الى مرتع جديد لتنظيم «القاعدة» المعادي لأميركا. ولا شك ان هذه الدولة المعرَّفة دينيا وليس قوميا في مقابل ذاتها ومحيطها، هي دولة تميزت السياسة فيها دائما بنوع من التقديس الديني لمهمة الدولة.
يدّعي فرانك ريتش في «نيويورك تايمز» (11 تشرين الثاني/ نوفمبر) ان عدم حساسية الولايات المتحدة لخرق حقوق الإنسان واعتقال قضاة ومحامين في باكستان هو نتاج عدم حساسية الخيارات السياسية الأميركية الداخلية في الولايات المتحدة ذاتها بعد احداث 11 ايلول تجاه الديموقراطية وحقوق الإنسان. ففي واشنطن ذاتها أصبح السياسي أمام خيارين: إما أن يدعم حالة الطوارئ على ما تتضمنه من خرق لحقوق الإنسان حتى «تفكك القنبلة الموقتة» الإرهابية الدورية، أو يُتهم بأنه يدعم الإرهاب.
وقد أكد بوش بوضوح في مؤتمر صحافي عقده في كروفرد مع المستشارة الألمانية انغيلا ميركل يوم 10 تشرين الثاني (نوفمبر) ان مشرف ما زال حليفا لأميركا رغم إعلانه حال الطوارئ والأحكام العرفية. وقد شرح بوش الموقف في المؤتمر الصحافي قائلا: «بعد 11 ايلول خيِّرنا مشرف بين أن يكون معنا او ضدنا، وقد اختار أن يكون معنا». («واشنطن تايمز» في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر). هكذا يلخص بوش موقف إدارته من ديكتاتور عسكري بلغة تلك الأيام: معنا أو ضدنا. إنها لغة الحرب ضد الإرهاب التي وسعت نطاق فعله. هكذا تشترك أميركا مع باكستان في الحرب ضد الإرهاب فتبرر قبولها الحلفاء كما هم «لأنهم معنا». ولكن بوش طبعاً لا بد ان يكابر فيقول إن باكستان تشارك اميركا أمراً آخر ألا وهو التوق للعيش بحرية (كلمة الحرية نفسها التي ذكرها بوش 27 مرة خلال عشرين دقيقة في خطاب القسم عام 2005). ومن أجل هذا التوق دعا بوش مشرف في المؤتمر الصحافي الى أن ينزع الزي العسكري و «أن يقود بلاده بلباس مدني». بهذه العبارة تتلخص طلبات بوش من مشرف.
منذ أن وصل مشرف إلى سدة الحكم في باكستان بانقلاب عسكري ضد نواز شريف تلقت حكومته 10 بلايين دولار من الدعم الأميركي، منها 7 بلايين للأغراض العسكرية. ويذكِّر هذا الدعم الأميركي بالدعم الذي تلقاه نظام ضياء الحق الذي انقلب عام 1977 على ذو الفقار علي بوتو مؤسس «حزب الشعب»، اذ احتلت باكستان في فترة حكم ذلك الديكتاتور المرتبة الثالثة بين الدول التي تتلقى المعونات الأميركية بعد إسرائيل ومصر.
ورغم اعلان مشرف حال الطوارئ يوم 3 تشرين الثاني (نوفمبر)، وحديث بوش الهاتفي الليلي معه حول الموضوع، وتهديد العديد من اعضاء الكونغرس باتخاذ خطوات لوقف الدعم لباكستان، ورغم الحرج الأميركي بعد هذه الخطوة، تمضي على قدم وساق الإجراءات لتنفيذ الخطة العسكرية لهجوم مضاد مشترك أميركي باكستاني في منطقة القبائل (بادرت الى نشر هذا «واشنطن بوست» يوم 9 تشرين الثاني، وكررته العديد من الصحف الأميركية طيلة الاسبوع الجاري). يدرك مشرف أن أميركا تنتقد وتضغط ولكن لا غنى لها عنه في إحكام القبضة على الجيش وفي التصدي للمعارضة الإسلامية وللتمرد على أنواعه في منطقة القبائل الملاصقة لأفغانستان.
بعد ان ادعى بوش انه يصدق مشرف قائلا: «اذا نظر رجل باكستان القوي في عيني وقال لي انه لن تكون هناك القاعدة ولا طالبان فإني أصدقه» (ورد الاقتباس في مقال ريتش أعلاه). ثم أعلن مشرف هدنة مع «طالبان» عام 2006، وما كاد بوش يهنئه على ما أنجزه، حتى انسحبت «طالبان» من الهدنة. ولم يتمكن مشرف من شن حملة عسكرية حقيقية على «طالبان» وعلى الفصائل الإسلامية التي تتخذ منطقة القبائل ملجأ ومنطلقا لها. وكانت أحداث «المسجد الأحمر» نقطة تحول اضطرته ان يقرر ويحسم في الامر كما تريده اميركا ان يفعل.
ولكي يتمكن مشرف من قيادة باكستان الى مواجهة كهذه بالتحالف مع اميركا في ظل وجود معارضة باكستانية إسلامية واسعة في بلده، كان عليه ان يحسم وأن يختار أحد اتجاهين يمكّناه من الحسم: توسيع قاعدة النظام بإتاحة المجال لمشاركة معارضة أقل خطرا ترتاح لها أميركا مع علمها انها غير قادرة على حكم البلد من دون الجيش، أو فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية على البلد ومنع المعارضة من التعبير والاحتجاج. رفض مشرف عودة نواز شريف باعتبار الأخير مقربا من المعارضة الإسلامية الواسعة في البلد ويصعب ان يكون مجرد مانح شرعية لخطواته في المعارضة او في السلطة.
وجرت محاولة أميركية بريطانية للتوفيق بين مشرف وبنازير بوتو المقبولة من اميركا، وبذلك يتم توسيع قاعدة وشرعية النظام في مواجهة الإسلاميين في الداخل و «طالبان» في الداخل والخارج. ولكن رد فعل الإسلاميين الذين اعتبروا هذا التوافق تواطؤاً مع الديكتاتورية من قبل بوتو وإمعانا في النهج العلماني من قبل مشرف من ناحية، وطموح بوتو السياسي غير المحدود وغير الملجوم، لا بالتفجيرات وقتل مؤيديها ولا بموقع الشريك في السلطة بوساطة أميركية من ناحية اخرى، جعلا مشرف يختار الخيار الثاني وهو فرض الأحكام العرفية وحالة الطوارئ.
طبعا يصعب القول أيهما أسوأ ما في بوتو، طموحها الدموي للسلطة الذي لا يتوقف عند حد، ام استعدادها للمناورة مع الديكتاتورية للحصول على أكبر حصة ممكنة من الحكم في ظلها؟
يجري الصراع الدموي الدائر حاليا بين معارضة بوتو و «حزب الشعب» وبين النظام الحاكم داخل الفلك الأميركي الى حد ما. وبقدرة قادر نصب الإعلام الغربي بوتو زعيمة للمعارضة في باكستان. وهذا يعني حكومة موالية لاميركا ومعارضة موالية أيضاً. وكل طفل في باكستان يعرف ان هذا تقسيم عار عن الصحة. أميركا تدير أزمات. وهي في حال إنكار للخيارات التي يطرحها مشرف حاليا: إما المشاركة في مكافحة الإرهاب وشن الحرب سوية في منطقة القبائل، أو تعددية سياسية غير منضبطة في باكستان.
والجديد أنه كما في حال تركيا وإقليم كردستان العراقي، لدينا مثال آخر عن صراع حقيقي يدور على تخوم الامبراطورية، وداخل الفلك الأميركي. لقد باتت المعارك الجارية بين قوى مؤيدة لأميركا معارك فعلية وجدية تعبر عن تناقضات حقيقية. وتجد أميركا صعوبة في السيطرة على حلفائها. ولا تحدد الأولويات الاستراتيجية الأميركية في الكونغرس حتى لو افرط النواب في طرح قضايا حقوق الإنسان كشروط لنيل المعونات. ففي النهاية تتواطأ اميركا مع الأنظمة القائمة ما دام ذلك أضمن لمصالحها، وأعظم فائدة في المعارك التي تخوضها.