قد تكون سوريا عند مفصل حاسم من تاريخها. النظام يتعرض لموجة جديدة من ضغوط سياسية وإعلامية وأخلاقية وقانونية، وربما غداً اقتصادية أو حتى عسكرية، قد تتجاوز عتبة تحمله، وتدفعه والبلاد نحو آفاق المجهول. وثمة قلق منتشر في البلاد من هذا المجهول الذي يتعذر تقديره ويصعب التحكم فيه. هذا قلق مشروع. غير أننا نلح على أن سياسة تبنى على القلق ستكون في الضرورة قلقة، أو حتى انهزامية. لا تقترح هذا المقالة سياسة محددة، ستحاول فرز الفاعلين الداخليين الأساسيين في المشهد السوري المحتمل، وتقدير أدوارهم الممكنة. إنها محاولة لفحص عقلنا وضميرنا الوطني قبل امتحان محتمل، قد يكون عسيرا.
الدولة
تعوّدنا أن نقول إن الدولة هي الفاعل السياسي الأكثر عقلانية، أو الأقل لاعقلانية، إن في العلاقات الدولية أو في حكم المجتمعات. أعقل من الأحزاب ومن الطوائف ومن الأفراد. وهذا لأن من المفترض أنها تمثل، في آن واحد، المجتمع الوطني بكل فئاته، وتاريخ البلد بكل مراحله. ليس الأمر هكذا في سوريا للأسف. الدولة حزبية صراحةً، وتحذف اكثر من نصف تاريخ البلد وذاكرته الوطنية (تاريخ سوريا بين انهيار السلطنة العثمانية وعام 1963، مرورا بالاحتلال الفرنسي ثم المرحلة الاستقلالية، واسمها البعثي هو "عهد الإقطاع والبورجوازية" أو "عهد الانقلابات العسكرية"، ومرحلة الوحدة مع مصر، وصولا إلى "عهد الانفصال" المترنح الذي أسقطه البعثيون والناصريون). فيما تعلي من شأن مرحلة ما بعد 1963، وخصوصاً ما بعد 1970، لتمنح نفسها أبوة مطلقة للمجتمع السوري. إلى ذلك فإن استقلال الدولة عن النظام ضعيف جدا، والعناصر الوطنية والعقلانية والعمومية في بنية الدولة مهمشة ومعزولة. ضعف الدولة يتجلى في حقيقة أن العناصر دون الدولتية في تكوين طاقم السلطة وتفكيره وولائه وممارسته، أقوى من العناصر الدولتية. هذا ما يجعل المرء لا يراهن كثيرا على "الدولة" في الحد من أخطار التناثر الاجتماعي والتنازع الأهلي. بل هو أصلا سبب الخشية من هذه الأخطار. إذ تبدو الدولة أشبه برهينة بين أيدي فاعلين دون دولتيين، الأمر الذي يجعل الخشية من نهج "من بعدي الطوفان"، مبررا. ولا تزداد الخشية هذه إلا وجاهة إن أخذنا في الاعتبار أن نزع مدنية المجتمع السوري، أي عسكرته و"أهلنته"، كان أيضا نزعا لتمدنه، أعني "زعرنته" و"تشبيحه". من شأن ذلك أن يزيد فرص بروز ظواهر تجمع بين الخروج على القانون والبطولة الأهلية وتمجيد القبضاوية والعنف.
لقد افتقرت سوريا طوال العهد البعثي إلى مقر عمومي للعقلانية والاعتدال. لكن لا عقلانية العشرية البعثية الأولى، التي شهدت حربين وثلاث انقلابات عسكرية وتغيير الأوضاع في الريف، كانت من النوع الثوري أو "فوق العقلاني"، فيما كانت لاعقلانية العقود الثلاثة اللاحقة وجها آخر لغريزة بقاء مفرطة التضخم والحساسية، تسببت في خضوع المجتمع السوري لانقلابات مستمرة كشرط لانتهاء عهد الانقلابات على مستوى السلطة.
التحام الدولة والنظام والمجتمع الأهلي أضعف العناصر العقلانية والعمومية والوطنية في بنيتها. لقد نزع عمومية جهازي الإعلام والأمن ووطنيتهما، وبدرجة أقل الإدارة والجيش. النظام التعليمي نفسه مضروب، ووظائفه في نشر وعي وطني ومواطني معطوبة. وجميع الهياكل هذه تعاني فسادا سرطانيا، يلوث أجواء البلاد كلها بالزيف والقبح والانحطاط الأخلاقي، وينخر الأفكار والقيم والأخلاقيات جميعا.
كيف يمكن تقوية الدولة؟ كيف السبيل إلى إنعاش العناصر العمومية والوطنية والعقلانية في بنيانها؟ هذا سؤال سيطرح نفسه بحدة متزايدة على الديموقراطيين. بل نميل إلى الاعتقاد بأن فرص الديموقراطية في سوريا تكون أكبر بقدر ما تضع نصب عينيها تقوية الدولة، مع ما يتضمنه ذلك من كل بد من تجديد وظيفتها القمعية بالذات. يتعين أن تكون تقوية الدولة، حيال المصالح الجزئية والروابط الأهلية، فضلا عن التهديدات الخارجية، عنصرا أساسيا في أي برنامج للديموقراطيين والوطنيين العقلانيين. من نافل القول إن تقوية الدولة تمر عبر قطيعة مع نظام السلطة الراهن.
الأحزاب السياسية
الفاعل الاجتماعي الذي يحتل المرتبة الثانية من حيث العقلانية هو الأحزاب السياسية. فالدولة والأحزاب مصنوعة من عنصر الحداثة السياسية، أمة المواطنين الأحرار. الفرق أن الدولة تمثل الأمة كلها وتحوز العنف في الداخل والخارج، فيما الحزب قطاع من الأمة ولا يحوز العنف.
لقد خسرت أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" حزبيتها وسياسيتها معا، وتحولت مشروعات عائلية، تغطي على اتضاعها بتعنت إيديولوجي، قومي أو شيوعي. وهي تشارك حزب البعث انعدام الاستقلالية والشخصية بحكم تماهيها المديد مع السلطة وتعوّدها على الامتيازات غير العادلة.
السؤال المهم في هذا السياق يتصل بالدور المحتمل لحزب البعث إذا انفتحت آفاق البلاد على المجهول ووجد نفسه في المجتمع لا في السلطة. ما نسبة أعضاء الحزب الذين سيبقون بعثيين، وكم هم الذين سيلتحقون بروابطهم الأهلية، أو يتركز جهدهم على استعادة امتيازات جائرة ونفوذ غير شرعي واستثناءات غير قانونية؟ هل يعود البعث حزبا انقلابيا؟ لقد أفسد نظام الحزب الواحد حزب البعث، ونزع عموميته ووطنيته، ومن المرجح كذلك أنه قلل قدرته على التكيف مع أي وضع لا يكون فيه منفردا بالسلطة. إن تداخل الحزب المديد مع السلطة الأمنية وتعايشه مع القمع أو مشاركته فيه، قد قتل العناصر الشعبية في وعيه ونمّى عناصر الاستئثار والقسوة واللاعقلانية فيه. وولادته مع حال الطوارئ تنذر بأن لا يكون قادرا على العيش بدونها، أي دون تطبيع الاعتباط واللاقانونية. وفوق هذا كله تعارض نظام الاستثناء الذي أقامه على الدوام مع الاستقرار والأمن الاجتماعيين وعطّل إمكان التوقع الرشيد عند المواطنين وجعل حياتهم نهبا للفوضى والعشوائية. في الجملة لم يكن حزب البعث فاعلا عقلانيا ولا يتفاءل المرء بدور عقلاني له في آفاق سورية مفتوحة ومجهولة.
تحت عنوان المعارضة السورية يمكن أن يميز المتابع بين المعارضة التقليدية ذات الأصول الإيديولوجية، اليسارية والقومية العربية، والمعارضة الحديثة التي تكونت في السنوات الأخيرة. المعارضة التقليدية بدورها تنقسم معارضة علمانية (معتدلة وأقل اعتدالا) ومعارضة إسلامية (معتدلة واقل اعتدالا كذلك). بينما تنقسم المعارضة الحديثة معارضة داخلية، ليبيرالية الهوى، لم تستطع الوقوف على قدميها بعد، ومعارضة خارجية، بعض أطرافها مرتبط بأجندة الأميركيين، ويجمع بين شدة التطرف والانفصال عن الثقافة الوطنية. وربما يكون ثمة تنويعات إسلامية متطرفة و"قاعدية" الهوى ضمن المعارضة الحديثة. لكن يصعب التأكد من ذلك. ويتشكك كثيرون في وجود تنظيم "جند الشام"، أو في استهدافه النظام، إن وجد.
المعارضة التقليدية أكثر عقلانية وسياسية من المعارضة الحديثة. فهي أكثر انفتاحا على القيم التي شكلت الثقافة الوطنية السورية، والتي، رغم معاناتها من أزمة حاليا، إلا أنها في متن كل وطنية سورية ممكنة. أعني بذلك قيم الاستقلال والوحدة الوطنية، ونوعاً معتدلا من العلمانية، وصيغة، ربما مخففة، من العروبة. وهي تنفتح على شريحة أوسع وأطول من تاريخ سوريا الحديث (ليس لسوريا الحالية تاريخ غير حديث)، وما قبل تاريخ سوريا، قياسا بحزب البعث، وقياسا بتنظيمات حديثة تحذف نصف تاريخ سوريا (ما بعد 1963)، أو تتثبت تثبتا مطلقا على تغيير النظام البعثي. المعارضة التقليدية أيضا أوسع تمثيلا إمكانيا للمجتمع السوري. تنظيماتها العلمانية عابرة للطوائف (وإن تكاد اليوم تكون خالية من الأكراد، بعدما كان لهم وزن مهم في الشيوعية السورية في مختلف تنظيماتها)، أو منفتحة على التعدد الديني والإثني للمجتمع السوري. هنا "الإخوان المسلمون" يعانون مشكلة بلا شك.
مشكلات المعارضة التقليدية كثيرة، بينها ضعفها الفكري وتشرذمها واكتهالها وضعف انفتاحها على المستقبل. كما أن ضعف الديموقراطية داخل الأحزاب يحدّ من عقلانيتها. إنها ايضا ضعيفة العزم والمبادرة، ما يجعل عقلانيتها مصنوعة من التعب ونقص الثقة بالنفس.
هل يمكن الأحزاب السياسية أن تقوم بدور تأسيسي، توحيدي وديموقراطي، إذا واجهت سوريا تحديات مرحلة جديدة من تاريخها؟ هل يمكنها أن تحدّ من المفاعيل اللاعقلانية لنزع مدنية المجتمع السوري وتمدنه؟ ما يمكن أن يقوله المرء بثقة هو ان غياب دور الأحزاب يجعل الأمور أسوأ. وخلافا لمزاج شائع، "مناقص" (نقيض مزايد)، بل عدمي، نميل إلى أنها قد تلعب دورا اكبر مما هو متوقع في عقلنة الأهواء والاندفاعات الاجتماعية.
الإسلاميون
في هذا السياق المخصوص ينضوي تحت دال الإسلاميين، الإسلاميون الحركيون حصرا، المنضوون في تنظيمات سياسية تهتدي بالإسلام أو بما يظنونه كذلك. السؤال هنا أيضا: إلى أي مدى يمكن أن يقوم الإسلاميون بدور في عقلنة المجتمع والدولة في مرحلة قد تكون مضطربة؟ إلى أي مدى يمكن أن يقوموا بدور وطني وعمومي؟
في أواخر السبعينات جرت عملية إيديولوجية سياسية عسكرية في أوساط "الإخوان المسلمين" السوريين كلفتهم وكلفت البلاد الكثير. قام شبان من أوساط "الإخوان"، مقتدين بالشيخ مروان حديد كقائد وملهم حركي (قتل في السجن عام 1976) واجتهادات الشيخ سعيد حوا التكفيرية، بعمليات اغتيال واعتداءات على شخصيات محسوبة على السلطة. هؤلاء الشبان هم "الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين" التي نفذت "مجزرة مدرسة المدفعية" في بداية صيف 1979 في مدينة حلب (راح ضحيتها قرابة 100 من طلاب الضباط، العلويين حصرا). قيادة "الإخوان المسلمين"، الخبيرة والعقلانية أكثر من غيرها، لم تستطع أن تدين العملية باتساق وتقف في وجهها، كما لم تستطع أن تؤيدها وتتحمس لها. كانت ترى قواعدها تنحاز شيئا فشيئا لـ"الطليعة المقاتلة" حيث "النزعة البطولية" و"الروح الاستشهادية"، من دون أن تستطيع فعل شيء غير مغادرة البلاد. لسنا غافلين عن دور النظام وقتها في توحيد المتطرفين والمعتدلين، "الطليعة" والحزب الأم (هل كان رفعت الأسد هو "الطليعة المقاتلة" للنظام، وهو الذي جره إلى المواجهة المطلقة مع "الإخوان" جميعا؟ ثمة مؤشرات الى ذلك، لكنها غير قطعية. التساؤل هذا مهم من وجهة نظر سياسية راهنة، خصوصاً في وجه الذين يعتبرون صراع تلك المرحلة بين رفعت و"الإخوان". التقابل الأصح هو بين رفعت و"الطليعة المقاتلة"، أو بين النظام و"الإخوان"). لكن تطرف النظام أو أطراف منه لم يكن السبب الوحيد لشلل قيادات "الإخوان" وغياب دورها العقلني. لقد كانت ايديولوجيتهم، وما فيها من عناصر تكفيرية وطائفية، تحتمل الخيار الذي أقدمت عليه "الطليعة المقاتلة"، بل كانت ضعيفة أمام إغرائه (تماما كما أن إيديولوجيا التنظيمات الشيوعية تحتمل خيارات متطرفة، وربما إرهابية، وقد تستسلم لغوايتها). الأمر الذي فاقم اللاعقلانية وسوء الحساب السياسي لدى أولئك القادة الميدانيين من أمثال عدنان عقلة وهشام جمباز وغيرهم.
في المناسبة، مثل ذلك جرى تقريبا في أوساط أكراد القامشلي والحسكة في آذار 2004. لم تستطع الأحزاب أن تقود الاحتجاج الكردي على مقتل مواطنين أكراد يوم 12 آذار خوفا من السلطة. ولم تستطع كذلك أن تعترض عليه وتوجهه خوفا من أن تخسر ما بقي لها من اعتبار في وسط جمهورها. في الفراغ القيادي الذي حصل، تولت قيادة أمر واقع مكونة من فتيان ومراهقين مندفعين توجيه الاحتجاج، ما ساهم في خروج الوضع على السيطرة ووقوع ضحايا آخرين على أيدي أجهزة أمن مبرمجة على الضرب.
في الإجمال فاقم دور "الإخوان" في نهاية السبعينات العناصر اللاعقلانية والفئوية في تكوين النظام، وساهم في تخريب الدولة والمجتمع معا. هل من المحتمل أن يتكرر ذلك اليوم؟ هل "الإخوان" مزدوجو الهوى اليوم ايضا؟ إلى أي حد يمكن القيادات أن تعمل في إطار الوطنية العقلانية؟ إلى أي مدى تستطيع عزل المتطرفين المحتملين في أوساط "الإخوان"، والحد من دوافع الثأر والانتقام، والوقوف في وجه المتطرفين الجهاديين والتكفيريين المحتملين في المجتمع السوري؟ هنا يضاف همّ آخر، يزيد الحاجة الوطنية إلى إسلاميين معتدلين: "السوريون العراقيون" (على وزن الأفغان العرب)، أي "المجاهدون" السوريون الذين قد يعودون من العراق ويساهمون في "الجهاد" ضد "الروافض".
في اجتهاداتهم خلال بضع السنوات الأخيرة توجهات ورؤى منفتحة تشجع على توقع دور عقلاني لهم في مواجهة أخطار التحلل والنزاع العام. لكن هل لا يزالون يحتفظون بنفوذ في أوساط الجمهور الإسلامي المتدين؟ ألا يحتمل أن عيش قياداتهم في المنفى طوال أكثر من ربع قرن قد اضعف قدرتها على فهم جمهور أكثر شبابا وتطلبا، واستيعابه وقيادته؟
المثقفون
مهما بدا ذلك غريبا فإن "عمّال العقل" أقل عقلانية من الأحزاب السياسية ومن الدولة من حيث المبدأ. هذا مرده أن الأحزاب تأخذ شريحة من الواقع في الاعتبار أوسع من تلك التي يأخذها المثقفون عادة.
كان وزن المثقفين لافتا في مرحلة السنوات الخمس الأخيرة. لقد طبعوا العمل العام بطابعهم، إن للخير أو للشر. من ناحية منحوا الحركة الديموقراطية حضورا لا يتناسب مع قوتها الاجتماعية، وغطوا فترة إعادة تأهيل الأحزاب لنفسها، وحددوا أكثر من غيرهم روزنامة النقاش الوطني والمعاني الأساسية في هذا النقاش. من ناحية ثانية أظهروا مألوف المثقفين من التشرذم وتكريس الذات، فضلا عن غلبة الهوى الإيديولوجي في حالات غير قليلة.
هل يمكن المثقفين أن يكونوا فاعلا عقلنيا في السياق الذي نتحدث عنه؟ هل هم متحررون من الروابط الأهلية ليقوموا بدور وطني تواصلي؟ المثقفون السوريون منقسمون بعمق حول الموقف من الإسلاميين، هذا يضع بعضهم في موقع متحفظ حيال ما يسمّونه "الديموقراطية العددية"، التي تعني ببساطة شديدة سيطرة الإسلاميين، وبتحديد اكبر المسلمين السنيين، على السلطة. ويفضل بعضهم نظاما "علمانيا"، ولو استبداديا، على نظام يخشون أنه يسعى من وراء الديموقراطية إلى التدخل في الحياة الخاصة وفرض نمط حياة عقيدي وغير حديث. ضمن هذا المناخ الموسوم بالتوجس وعدم الثقة، من غير المحتمل أن ينشأ ما يشبه حركة "كفاية" المصرية. فلم تقم هذه الحركة إلا لأن قطاعا مهماً من المثقفين والناشطين المصريين رفضوا "التواطؤ مع الدولة لاستمرار حجب الشرعية أو اضطهاد التيار الإسلامي الاعتدالي، رغم التخوف الأصيل من هذا التيار لأسباب تاريخية وإيديولوجية وسياسية" (من دراسة ممتازة لمحمد السيد سعيد بعنوان "النضال الشعبي من أجل الديموقراطية في مصر، ألقيت في اللقاء الخامس عشر لـ"مشروع دراسة الديموقراطية في البلدان العربية، متوافرة على الرابط: http://www.mafhoum.com/press8/248S62.htm).
الموقف من الإسلاميين هو القضية المفردة الأكثر إثارة للشقاق في أوساط المثقفين السوريين، تسبق حتى الموقف من السلطة، بل يكاد الموقف من هذه يمر مرورا محتوما بالموقف من هؤلاء. هذا من خصائص الاجتماع السياسي السوري التي لا يمكن إغفالها. والمشكلة ليست في انقسام الرأي في ذاته، بل في تخلي بعض المثقفين عن مسؤولياتهم العقلانية لمصلحة إشاعة المخاوف وتغذية الانفعالات الفئوية ورعاية الغرائز بدلا من العقل. من جهتنا نعتقد انه ليس هناك أي مشكلة في "الطوائف في ذاتها"؛ ثمة مشكلة خطرة حين يتولى مثقفون "نقل الوعي من خارج" إلى "طوائف في ذاتها" لتغدو "طوائف لذاتها"، هذه "طائفة حداثية" وهذه "طائفة علمانية" وهذه "طائفة قومية"... وبدلا من عقلنة الأهواء والولاءات دون الوطنية ينزلق مثقفون إلى تطييف الثقافة. هذا استسلام غير مشروط للطائفية، أو أعلى مراحل استقالة المثقفين وتخليهم عن دورهم العقلني، بل الوطني.
الفاعلون الأهليون
تعريفا غير عقلانيين ودون وطنيين، سواء كنا نتحدث عن إثنيات أم عن مجموعات دينية أو مذهبية. هذا ليس اتهاما بحال، بقدر ما هو متصل بربطنا بين العقلانية والانفتاح على أوسع قاعدة اجتماعية من السوريين وأطول مرحلة من تاريخ بلادهم. الأسئلة التي تطرح في هذه السياق تتصل بدور الجماعة الكردية، بدور الطوائف والمجموعات الدينية، بدور العشائر والمجموعات القرابية. من جهتنا نميل إلى التشاؤم حيال دور الأهليين. إنه مبدأ للتشرذم واللاعقلانية والأنانية. ومن ثوابت تاريخنا الحديث أن الأهلي يصعد على حساب الوطني بقدر ما يتعاظم دور الخارج حيال الداخل. وهذه سمة السنوات المقبلة في المجال المشرقي كله.
السورية والعروبة
يكتشف المرء في سياق تفحص الضمير السوري أن البلاد تفتقر إلى مبدأ موحد فعال، سواء تجسد في مؤسسة أو فكرة أو شخص أو رمز. مبدأ يمكن أن يعطي الوطنية السورية وجها وقواما يتعرف اليه كل السوريين. وإن كان لنا أن نستدل من سياساته، فلا يبدو أن النظام يدرك الحاجة إلى مبدأ وحدة حي، أو لا يعطيه ما هو جدير به من اهتمام. يستغني بالوحدة السلبية للمجتمع الممسوك عن الوحدة الفعالة للمجتمع الذاتي التماسك. لكن هذه وحدة جهازية، سندها الخوف وليس الأخوة ولا المساواة في الحقوق ولا شراكة المواطنة.
اليوم، وبدعم خفي من النظام، تنبعث تنويعات خرقاء من عقيدة "سوريا أولا"، من دون أن يكون لها من مضمون غير الابتعاد عن العروبة، وتغذية شوفينية سمجة متدنية المستوى، بشهادة النموذج الذي رأيناه منها في خصوص العلاقة مع لبنان (يحتاج لبنانيون إلى الانتباه إلى أن الشوفينية السورية ضد بلدهم أوثق صلة بازدراء العروبة من التزامها، بل إنه ليس غير العروبة يمكن أن تلجم هذه الشوفينية). تستفيد "السورية المطلقة" هذه من استنزاف الفكرة العربية، التي كانت مبدأ الوحدة الفعال، على يد أنظمة تجمع بين الطغيان والفساد ورصيد من الهزائم العسكرية. من دون حريات وحقوق إيجابية، كانت عروبة الأنظمة قد ارتدت إلى وجه أمسح بلا ملامح، ثم دفعت طوال عقود ثمن إخفاقات استراتيجية وتنموية كبيرة، تسببت فيها أطقم حكم غير مؤهلة. العروبة قطاع عام، ولطالما عوملت كما يعامل القطاع العام: يُنهب ويُشتم معا.
السورية التي لا تتحدد إلا بالتمايز عن عروبة مستنزفة خاوية من المحتوى، مهددة بأن تكون جوفاء خاوية مثلها، من دون أن تمر بمرحلة شباب حيوية وواعدة كما كانت العروبة قبل أن يستعمرها نظام الحزب الواحد. وفي صورتها الراهنة هي غير مؤهلة للصمود في وجه الطائفية وأخطار التمزق الأهلي، إن لم نقل إنها نظرية التصدع الأهلي (كي نستخدم تعبيرا ملطفا). من أجل وطنية سورية دستورية، موحِّدة وموحَّدة، ثمة حاجة إلى نقاش عام واسع يأخذ في اعتباره تاريخ سوريا الحي ومجالها الحضاري وثقافة شعبها وخياراته المرجحة.
رهان على المستقبل
قد يكون السوريون مضطرين لمواجهة تحديات ضخمة وغير مسبوقة. النظر إلى الوراء لن يكون متاحا، ولن يصلح أساسا لسوريا الجديدة. ورغم أن المستقبل قد يكون مفعما بالمصاعب، نعود إلى القول إن الخوف من المستقبل أقل صلاحية لبلورة سياسة صحيحة اليوم. هذا أصح ايضا إذا أخذنا في الاعتبار ضعف تأثير المعارضين والديموقراطيين والوطنيين العقلانيين على مسار أوضاع البلاد في الشروط الراهنة، وهو ضعف ناجم مباشرة عن حرص النظام الشديد على ضربهم وإقصائهم، مخلصا لغرائزه الأصيلة. إنهم في وضع من لن يخسر سوى أغلاله في حال التغيير. ورغم أن تغير الأحوال محفوف بالأخطار، إلا أنه قد يفتح الباب لدور اكبر لجميع الفاعلين الذين ذكرناهم، بمن فيهم الديموقراطيون والوطنيون العقلانيون.
كيف يمكن، من دون الإغضاء عن أسوأ الاحتمالات، بلورة سياسة جسورة تصون البلاد وتجنبها الفوضى، بل تفتح أمامها آفاقا أوعد؟ الديموقراطيون والعقلانيون مدعوون إلى التحرر من الخوف والانهزامية، وإلى الرهان على المستقبل