الاقتصاد السوري يزداد ليبرالية في غياب رقابة اجتماعية مستقلة على هذا التحول من جهة، ودون اهتمام بتكون قطاعات إنتاجية ريادية تنشط الاقتصاد المحلي وتشكل بؤر جذب للتقانة والأموال والعمالة والمهارات من جهة ثانية. ليس إلا متوقعا، والحال كذلك، أن المستفيدين من لبرلة الاقتصاد السوري هم كبار المنتفعين من الاقتصاد البيروقراطي الأوامري، أو «الاشتراكي» المتراجع، الذي يشكل عبئا اقتصاديا فيما مردوده الاجتماعي يتضاءل. من ذلك تدهور مستوى الخدمات العامة في قطاع الصحة، وفي الوقت نفسه ارتفاع كلفتها رغم بقائها مجانية بالاسم. ومثله يجري للتعليم الرسمي، المدرسي والجامعي. ويتمايز باطراد طابقان تعليميان وصحيان: نخبوي يلبي حاجات شرائح اجتماعية ضيقة واسعة الثراء، وعام متدهور للجمهور العام. وهذا لا يكاد يقف على قدميه. فالدروس الخصوصية، ولا يكاد يكون ثمة أسر لا تلجأ إليها بسبب تدني مستوى التعليم الذي يتلقاه أبناؤها في المدارس، هي بمثابة خصخصة غير مباشرة للتعليم العام؛ والاستشفاء العام تنخره أقنية متعددة مفتوحة على عيادات ومشاف خصوصية تستنزف جيوب المرضى الفقراء وتذلهم. يبقى الدعم المباشر لبعض السلع، المحروقات بخاصة، وقد كان موضع جدال حاد في الأسابيع الأخيرة، استقر في ما يبدو على تأجيل ما سمته الجهات الحكومية إعادة هيكلة الدعم (تعويض رفع الدعم بمبالغ مالية مقطوعة للعاملين عند الدولة...)، أي على المعالجة التي تديم الحال القائم، فلا تحل مشكلات الاقتصاد ولا تنفتح على نظام ضمان اجتماعي مختلف يحمي الفئات الأضعف من المجتمع، وتبقى على تجزؤ الاقتصاد وعدم انضباطه بمنطق واحد.
ليس إلا متوقعا أيضا أن القطاعات النشطة في الاقتصاد الملبرل، التي سيفوز بها من يحوزون المواقع الأفضل نفاذا إلى عملية التحول الاقتصادي واطلاعا على مطابخ صنعها، هي قطاعات خدمية أو سريعة الدورة الرأسمالية وضعيفة التأثير على الاقتصاد الوطني ككل وغير كثيفة الأيدي العاملة.
كيف نفسر هذا التحول المطرد نحو الليبرالية الاقتصادية؟ نسوق هنا فرضية تربط لبرلة الاقتصاد السوري بجيل ما يسمى في سورية «أبناء المسؤولين»، وإن بمعنى موسع يشمل شركاءهم ومحظييهم. وفي هذا السياق ربما يفيد أن نميز بين ثلاثة أجيال بعثية. جيل المؤسسين، وهم من مواليد العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين. هؤلاء كانوا ضحايا مبكرين للبعث الحاكم، وقد اكتمل إقصاؤهم تقريبا في 1966. فنهايات كل من ميشيل عفلق (توفي في العراق عام 1989، وكان محكوما بالإعدام في سورية) وصلاح الدين البيطار (اغتيل في باريس صيف 1980) وأكرم الحوراني (توفي في الأردن عام 1996) وشبلي العيسمي (يعيش خارج سورية منذ 1966)... تعطي فكرة عن مصير هذا الجيل. الجيل الثاني هو جيل بعثيي السلطة أو السياسيين، وهم من مواليد الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. رمزه الأبرز هو الرئيس الراحل حافظ الأسد. لكن من هذا الجيل أيضا صلاح جديد ونور الدين الأتاسي اللذين توفيا في النصف الأول من التسعينات بعد سجن مديد، ومنهم أيضا حكمت الشهابي (يعيش في الولايات المتحدة)، وعبد الحليم خدام («انشق» في نهاية 2005) وغازي كنعان («انتحر» في تشرين الأول/أكتوبر 2005). وخدام وكنعان رمزان لمصير هذا الجيل الثاني.
في التسعينات الماضية أخذ يبرز جيل ثالث، ولد وقت استلام البعثيين للسلطة، أي في عقد الستينات عموما (مواليد بين أواسط الأربعينات ومطالع الستينات هم ضحايا جمود الدورة الجيلية بعد «الحركة التصحيحية» عام 1970؛ على أن معظم المعتقلين السياسيين السابقين في سورية هم من هذا الجيل). جيل الأبناء هذا لم يؤسس مشروعا ولا بنى سلطة. لكنه يجد منفذا لمواهبه في الاقتصاد مستفيدا من أموال أحرزها الآباء في الزمن «الاشتراكي». هو أيضا جيل لم يخبر عوزا ولم يشكُ من فقر. فلا دافع لديه للتمسك باقتصاد قطاع الدولة، المترهل والعاجز عن المنافسة فعلا. هو فوق ذلك من يجني أكبر الأرباح من التحول نحو الليبرالية. وبالفعل فإن ألمع نجوم الاقتصاد السوري اليوم هم من هذا الجيل، يسيطرون على قطاعات مهمة من الاقتصاد هي المجزية أكثر من غيرها. وليس أقل أهمية أنهم يتحكمون بمنابر إعلامية تشيع نموذجهم وتنشر إيديولوجيتهم وتبشر بـ»الانفتاح». إن أبرز الصحف والمجلات السورية غير الحكومية اليوم، الاجتماعية منها والسياسية والإعلانية، ملك لأبناء مسؤولين، سابقين أو حاليين، يديرونها في الغالب من وراء واجهات مهنية. وهو ما ينطبق على الفضائية السورية الخاصة الوحيدة، «تلفزيون الدنيا».
تحتاج هذه الفرضية، أي الربط بين جيل أبناء المسؤولين واللبرلة الاقتصادية، مزيدا من التقصي والتدقيق بالطبع. نسارع إلى القول إنها لا تعني أن الأبناء وصحبهم هم المستفيدون الوحيدون من التحرير الاقتصادي؛ جل ما تعنيه أن التحرير هو الموجة العامة الصاعدة، وأنهم يحتلون الموقع الأنسب للتحكم بها وتوجيهها لمصلحتهم. ثمة متمولون سوريون آخرون، حصلوا ثرواتهم بطرق أخرى (ليست «أخرى» كثيرا)، ينخرطون في عمليات الاقتصاد الجديد ويشكلون مجتمعه. ويشكل الطرفان معا أعضاء مجالس إدارة المصارف الخاصة والشركاء في التكتلات الاقتصادية الجديدة، وأعضاء مجتمع النخبة العليا الذين يرتادون الفنادق الفخمة الجديدة والمطاعم البراقة.
في صورة إجمالية لسورية اليوم نجد لوحة مرقشة تمتزج فيها تسلطية سياسية مع ليبرالية اقتصادية وإعلامية، ومع محافظة اجتماعية وهذه تأخذ شكلين: شكلا دولتياً، متعلقا بهياكل الاقتصاد البيروقراطي ونمط حياته، وهي نزعة بعثيين وموظفين متوسطين، وربما عسكريين، لا شيء يجنونه من اللبرلة بل إنها تهددهم بتدني الدخل وتراجع المكانة. الصحافة الرسمية هي المنبر المفضل للتعبير عن هذا القلق والنزعة المحافظة الدولتية. غير أنه ثمة شكل آخر للنزعة المحافظة مرتبط بالدين. وهو بدوره ارتكاس الطبقة الوسطى المستقلة، المسلمة بخاصة، وبعض كادر الدولة البعثي، ممن تهددهم اللبرلة أيضا. وما يحدد توزع الطبقة الوسطى السورية على إحدى النزعتين المحافظتين هو عوامل ثقافية ودينية واجتماعية.
أما مظاهر التهميش والإفقار، القائمة والمتجهة إلى التفاقم مع التحول نحو الليبرالية دون رقابة اجتماعية، بالخصوص في الأرياف وضواحي المدن الأفقر، فلا تثير رد فعل محافظ. هنا نصادف واحدا من ردي فعل متناقضين. رداً «ثوريا» أو «جهاديا»، يجتذب شبانا في عشرينات أعمارهم إلى تشكيل مجموعات «سلفية جهادية» لا تعترف بغير الأمة الإسلامية مرجع انتماء وإطار كفاح، وتوجه نشاطها نحو العراق، أو ربما لبنان («فتح الإسلام»؟)، لكن لعل مجموعات منها هي ما تعرضت غير مرة إلى مداهمات من قبل الأجهزة السورية المختصة انتهت في الغالب إلى قتل جميع أفرادها.
رد الفعل الآخر هو التحول نحو قطاعات الاقتصاد غير المنظم والأنشطة الموازية، من تلميع الأحذية وبيع الجوارب أو السكائر في الشوارع إلى التهريب والقوادة. ولا يتعارض شكل رد الفعل هذا مع مقاومات خفية تأخذ شكل مخالفات (في مجال السكن والكهرباء... بخاصة)، أو معلنة: صدامات حقيقية حصلت في غير ضاحية حول دمشق وحمص حين تبادر الجهات الرسمية إلى قمع المخالفات. وقد حصل تدمير مناطق مخالفات غير مرة في السنوات القليلة الأخيرة، ما يشير في تقديرنا إلى تقدم منطق السوق والرأسمال على أي منطق اجتماعي على مستوى الجهاز الحكومي.
يبقى أن الخط مفتوح بين «الجهاد» والأنشطة غير النظامية، وهما موحدان في العمق كشكلين من «الخروج» أو التمرد على نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي يغلق أبوابه دون الجمهور المهمش. معظم مجاهدي اليوم هم من المهمشين خلافا لمجاهدي الرعيل الإخواني الذين كانوا من الطبقات الوسطى. ولعل الأردني أبا مصعب الزرقاوي النموذج الأشهر للتحول السلس من أحد شكلي الخروج إلى الآخر.
يبقى أيضا أن أية سياسة تواجه الخروج الجهادي أمنيا دون أن تعالج خارجية قاعدته الاجتماعية مكتوب لها الفشل. أما الجمع بين كثير من «الأمن» وقليل من المعالجة الاجتماعية، وهو سمة المزيج الراهن من الليبرالية الاقتصادية والتسلطية السياسية، فهو وصفة لانفجار اجتماعي غير ثوري، ينزلق بسهولة نحو نزاع أهلي مطلق.